بشير جمال الدين |
رواية الدجاجة التي حلمت بالطيران للروائية الكورية (صن _ مي هوانغ) تم نشرها للمرة الأولى عام 2000 وقد لاقت قبولاً كبيراً عند جمهور القراء، فتمت ترجمتها لاحقاً إلى اثنتي عشرة لغة منها العربية عام 2014 ثم صدر منها المسلسل الكرتوني الأول. الرواية كُتِبت على أحد عشر فصلاً جاؤوا في مئة وتسعين صفحة، امتازت بلغة سهلة وحبكة متقنة. تدور محاور الرواية حول دجاجة تدعى ايبساك ولدت بعالَم تقليدي وأثارها سؤال مقلق … لماذا يجب عليها أن تبقى حبيسة القفص لتقدم البيض دون غيرها من الدجاجات؟
فكرت مليَّاً ثم أخذت قرارها الذي غير مجرى حياتها، امتنعت عن وضع البيض فأخذها صاحب المزرعة للذبح مع الدجاجات المريضات، فهربت إلى حديقة البط البري الذي نبذها لأنَّها ليست من جنسه، فلاحقها ابن عرس ليجعلها وجبة عشاء دسم لصغاره فلم يفلح … وافترس ابن عرس ذكرَ البط الوحيد الذي وافق على صداقتها … فشعرت بالوحدة ثم وجدت بيضة ضالة فاحتضنتها واكتشفت عند لحظة خروج الفرخ منها أنَّها بيضة بط لا دجاج …. أقنعت نفسها أنَّ الحب يصنع المعجزات، وأنَّ الاختلاف ليس قضية يفترق من أجلها خليلان، وأنَّ كل ما عليها هو أن تحب هذا الفرخ وتربيه ليكبر ويتعلم الطيران كبقية البط.
الرواية شديدة الرمزية، وفيها الكثير من الإسقاطات على الواقع البشري سواء على الصعيد الاجتماعي وبناء العلاقات أو التحديات الشخصية. ورغم تصنيفها ضمن أدب الأطفال إلا أنَّها تحمل قيماً ومعانٍ وآلاماً وأحلاماً كبيرة، أحلاماً بالتحرر والانعتاق من شمولية الأنظمة المستبدة الدكتاتورية، لا عجب وهذه الأنظمة تطلب من الإنسان اليوم أن يعيش فقط كي تبقى هذه الأنظمة على قيد الاستبداد، سواء عاش الإنسان إنساناً أم حيواناً، المهم أن يبقى ليحافظ على التوازن البيئي السياسي للدولة!
إنَّها ليست قصة بسيطة ساذجة تروى للأطفال قبل النوم، لكنَّها حكاية عميقة جداً مليئة بشُحنات توقظ الأمل في النفوس وتحرك رياح التغيير.
لماذا اختارت الكاتبة بطلة قصتها دجاجة ؟! ربَّما لأنَّ الدجاجة حيوان لم يُعرَف بأي صفة إلا البساطة والروتينية في الحياة، لا مغامرات في هجوم على فريسة ولا خوف من حيوانات مفترسة في الغابة، فهي تعيش أليفة، تعيش في القن قريباً من البشر… الدجاجة التي تشبهنا كلنا في بساطتنا في حرصنا على ما نرغب به وتعلقنا بمن نحب…
هنا أودُّ الوقوف عند بعض الأحداث التي تعتبر مصدراً للإلهام في الرواية:
– يجب أن أتعلم الطيران لن أضع بيضًا بعد الآن. كان ذلك بمثابة الإعلان عن ثورة بدأت بإضرابٍ عن تنفيذ المهمةِ التي تعتبرُ هي السبب الوحيد لإبقائها حية إلى هذه اللحظة! السؤال الذي يفرض نفسه هنا:
– هل فكرت الدجاجة بالطيران لأنَّها حرمت من أبسط حق من حقوقها وهو الاحتفاظ ببيوضها، أو على الأقل بعضها؟!
هل هذه هي الطريقة التي يتخذ فيها المخلوق ردود أفعاله لقاء ما يواجهه من سلب لبعض حقوقه؟! هل المطالبة بحق إضافي ورغبة غير اعتيادية ناتجٌ عن عقدةِ نقصٍ يعاني منها من حُرِمَ من حق خاص به ؟!…
– في الموقف الثاني بعد أن تهرب ايبساك من القن وتجد بيضةَ بطِ لا صاحب لها تحتضنها وتبني آمالاً عليها في أن تصبح أمَّاً، لكن المفاجأة أنَّها عندما تفقس بيضة البط تبدأ ايبساك وصغير البط الصغير “جرين توب” في مواجهة الواقع، وهو أن الاختلاف بينهما كبير جداً، اختلافٌ لا يبدأ بالشكل ولا ينتهي باللون، اختلاف شَكَّلَ صدمة كبيرة لايبساك التي ظنت أنَّ بإمكانها أن تكون أماً لطائر من غير جنسها!
فوقفت أمام تحدٍ كبير، هل ستربي هذا الطائر الذي سيتركها عندما يكبر أما لا؟ فكرت ملياً … ولأنَّها كانت تعلم أنَّ في الحياة ما يستحق الحياة، قررت التغلب على واقع الاختلافِ، والتعايشَ مع فرخ البط رغم عِلمها أنَّ النهاية لن تكون مفرحة بالنسبة إليها، كانت تدرك أنَّه كلما كبر يوماً ستزداد تعلقاً به أكثر وسيقترب موعد رحيله أكثر…إلا أنَّها عاهدت نفسها على تربيته والبقاء إلى جانبه حتى ينضج. وبذلك تتجسد قيمة التضحية بكل معانيها ومعاناتها في شخص ايبساك وفي قرارها الأخير… ايبساك مثَّلت القابل للانكسار بكل ثقة دون خشية من العواقب.
– اللحظة الأكثر مدعاة لسيل الدموع كانت عندما يكبر الفرخ ويصبح قادراً على الطيران ويرحل دونما وداع يؤنس متروكاً ولا عناقٍ يرضي محباً …
ترجع ايبساك خطوتين إلى الوراء وعيناها معلقتان في السماء ويبقى عليها مواجهة ما هو أصعب، لقد كانت عينا أنثى “ابن عرس” تترصدها! لتنتهي القصة نهاية مفجعة أليمة، ولتقول لقارئها: إنَّه حتى في عالم الحيوان ثمن الحرية باهظ… باهظ جداً… وليس بالضرورة أن يترافق الشعور بالتحرر والنصر مع رفاه العيش والأمان.
القصة شعبية بسيطة لا خروج فيها عن المألوف، لكن القيم التي تبرزها الكاتبة فيها تمسك بالقارئ من تلابيبه، تجعله يتعاطف مع دجاجة كفرت بسير القطيع واختارت مضماراً معاكساً يوافق هواها ورغباتها ويجعلها سعيدة رغم التضحية. هي قصة عميقة حول تقبُّل الذات باختلافها ومنح العواطف بسخاء لمن نحب حتى لو لم يكن حباً منطقياً. هي ملحمة عن الأمومة… عن الحرية عن التضحية …
ايبساك هي الحلم الضائع في أعماقنا
هذه الرواية ثورةٌ بدأت بحلم وانتهت بكابوس.