غسان الجمعة |
لطالما بقيت تركيا لعقود رأس حربة وسياج حماية لحلف الأطلسي في مواجهة المعسكر الشيوعي وبالتحديد روسيا، إلا أن الأسبوع الماضي حمل تغيرات هذه المعادلة بالتزامن مع احتفالات الشارع التركي بليلة هزيمة الانقلاب وهبوط أولى شحنات المضاد الدفاعي S400 في قاعدة (مرتد) العسكرية في ظل امتعاض أوروبي على الصفقة واعتراض أمريكي وسرور روسي بتثبيت إسفين من الوزن الثقيل في هيكلية الناتو ونظامه العسكري.
إصرار أنقرة على البدء بتنفيذ الصفقة له دلالات ذات أبعاد سياسية و اقتصادية وعسكرية، بالإضافة إلى رسائل للداخل التركي والمحيط الإقليمي، فهو نقطة تحول كبيرة في خريطة التحالفات الجيوسياسية، إذ حرصت أنقرة على بثِّ هبوط أولى الشحنات عبر وسائل إعلامها من قاعدة قيادة العمليات ليلة الانقلاب الذي دعمته بعض الدول الرافضة للصفقة، كما أكدت استقلال قرار أنقرة للناخبين الأتراك بكل اتجاهاتهم السياسية والذين يدعمون هذا التوجه بمعزل عن التجاذبات الوطنية التركية، كما أن المنظومة الروسية منحت الجيش التركي تنوعاً في مصادر التسليح بينما كان سابقاً ذو طابع غربي وهو أحد أسباب عدم قدرة المضادات الأرضية على إسقاط طائرات الانقلابين التي قصفت مبنى الرئاسة والبرلمان في 15 من تموز 2016.
من جانب آخر أثبتت أنقرة للتحالف العربي الذي يستهدف تركيا مدى قوتها ومقدرتها على المواجهة، وذلك من خلال إصرارها على امتلاك المنظومة رغم التحذيرات الأمريكية، وهو ما يعري تلك المظلة التي يلوذون بحمايتها، بل إن تصريحات ترامب بعدم فرضه للعقوبات على تركيا بسبب استلمها للمنظومة الدفاعية الروسية أثبت للمحور العربي المواجه لإيران أن أمريكا التي يستقون بها ليست الإمبراطورية التي يظنونها، بل إنها تحترم فعلاً من يبحث عن قرار سيادته و استقلاله وشراء الحلفاء هو سمة الضعفاء، و إن التحالف يُبنى على الندية واستقلال القرار.
أما أوروبا العجوز التي فرضت مؤخراً عقوبات على تركيا بسبب تنقيبها عن النفط في شرق المتوسط في منطقة تعتبرها دول الاتحاد متنازع عليها، فلن تستطيع بعد الآن تهديد تركيا بشراكتها وثروتها بعد تنفيذ أنقرة لتهديدها بشراء المنظومة واستلامها، ولم يعد من صالحها كسر جناحها الآخر في حلف الناتو بعد أن مزقت أتاوات ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد جناحها الأول عملياً، ممَّا يعني بقاءها وحيدة في مواجهة النفوذ الروسي المتنامي في الشرق الأوروبي، كما أن أنقرة لن تجد صعوبة في بناء شراكات بديلة عن الاتحاد الأوربي في آسيا و إفريقيا، فاستبدال الأسواق أسهل من استبدال العتاد.
أما روسيا فهي تأمل بالثمن الحقيقي لصفقتها بأن تكون أولى بوادر الشقاق في قلعة الناتو من الخاصرة التركية، بل وتطمح لتحالف إستراتيجي أعمق مع أنقرة لأسباب داخلية وخارجية، فهبوط المنظومة في قاعدة بلد كتركيا وهي في حلف الناتو يعتبر نصرًا لبوتين أمام الرأي العام الداخلي بنكهة سوفيتية، بالإضافة إلى قوة تأثير تركيا على بعض الأقليات في روسيا و الحزام المحيط بها، كما أن الدور الأكبر الذي تُعول عليه روسيا هو مساهمة أنقرة في حل الملف السوري، حيث إنها تحتفظ بنقاط في إدلب هي عثرة حقيقية أمام موسكو، بالإضافة إلى أن أكبر نسبة للاجئين السوريين هم في تركيا، و تُمسك أنقرة بطرف ملف شرق الفرات بقوة أكثر ممَّا يمسك به أي لاعب آخر في مواجهة الولايات المتحدة.
الخطوة التركية الجريئة انتقلت بتركيا لدور أكبر ومنحتها المزيد من خيوط اللعبة في الشرق الأوسط، والتحدي الآن هو مقدرة الأتراك على إدارة هذه الخيوط وسط تناقض المصالح بين الأطراف وتوافقها في آن واحد.