أزمة إيجارات دمشق بعد التحرير: حين يصبح السكن حلمًا بعيد المنال

جاد الدمشقي

دمشق
1٬729

في قلب دمشق، حيث حكايات الياسمين تروى في كل زقاق، تحاول المدينة بعد سنوات الحرب الطويلة والتحرير أن تستعيد نبضها السابق. غير أن سكانها اليوم يواجهون تحدّيًا جديدًا يثقل كاهلهم ويغيّر ملامح حياتهم اليومية، يتمثل في الارتفاع الجنوني في إيجارات المنازل.

لم يعد السكن مجرد سقف يؤوي العائلة، بل بات عبئًا اقتصاديًا يهدد استقرار الأسر ويستنزف مدخراتها ومدخولها الشهري، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العيش في العاصمة السورية بعد سنوات من الألم والنزوح.

بين دمار الحرب وتقلص العرض

يعدّ الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية والمباني السكنية أحد الأسباب الرئيسية في هذه الأزمة. ففي مناطق متعددة من سوريا، بما فيها محيط دمشق وبعض أحيائها، تراجع المعروض من المنازل الصالحة للسكن، بينما ظل الطلب مرتفعًا، خاصة مع عودة أعداد كبيرة من النازحين داخليًا وخارجيًا بحثًا عن الأمان وفرص العمل.

هذا الخلل في ميزان العرض والطلب أوجد بيئة مثالية لتجار العقارات والمؤجّرين لاستغلال الحاجة ورفع الأسعار بشكل غير مسبوق.

العامل الآخر الذي لا يقل أهمية هو الانخفاض الحاد في قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة جميع السلع والخدمات، بما في ذلك مواد البناء والصيانة. هذا الواقع دفع أصحاب العقارات إلى رفع الإيجارات، في محاولة لتعويض خسائرهم ومجاراة التضخم.

“لايزال المنزل حلم!”

يقول السيد أبو أحمد، وهو رجل خمسيني عاد مؤخرًا إلى دمشق بعد سنوات من النزوح: عندما عدت وجدت منزلي مدمّرًا بالكامل. كنت أحلم أن أستعيد حياتي الطبيعية، لكنني صُدمت من الأسعار الخيالية للإيجارات. الشقة الصغيرة التي بالكاد تكفينا إيجارها يعادل راتبي الشهري… بل يتجاوزه. كيف يمكنني أن أعيش وأكفي عائلتي؟ أشعر أننا نُزحنا من جديد، ولكن هذه المرة بسبب الغلاء.”

تشير التقديرات إلى أن إيجارات الشقق في دمشق بالمتوسط كان قبل سنوات يتراوح بين 200 و250 دولارًا، عندما كان سعر الصرف حوالي 18 ألف ليرة للدولار. أما اليوم، ومع تحسن نسبي في سعر الليرة ليصل إلى نحو 10 آلاف للدولار، فقد قفز الإيجار ذاته إلى ما يقارب 500 دولار – أي الضعف.

اقرأ أيضاً: هيئة المنافذ تبحث مع وفد صيني فرص الاستثمار في الموانئ والمناطق الحرة السورية

السيد علي، صاحب مكتب عقاري في أحد أحياء دمشق الراقية، يبرّر الأمر قائلًا: نتفهم معاناة الناس، لكن سوق العقارات يخضع لقوى العرض والطلب. هناك نقص كبير في الشقق، والطلب مرتفع جدًا. كما أن تكاليف الصيانة والبناء ارتفعت بشكل غير مسبوق. نحاول أن نكون منصفين، لكننا في النهاية ندير عملًا تجاريًا وعلينا أن نحقق ربحًا لنستمر.

أما الصحفية أم عدنان، التي عادت إلى دمشق بعد أكثر من سبع سنوات من النزوح، فتقول: بعد التحرير قررنا العودة إلى موطننا، لكننا فوجئنا بأسعار الإيجارات التي وصلت إلى نحو 500 دولار. هذا مبلغ ضخم مقارنة بدخل الأسرة. اضطررنا للانتقال إلى الريف الدمشقي، رغم ضعف الخدمات وندرة الماء والكهرباء. أشعر بالندم على العودة في هذا الوقت.

الأزمة في نظر الاقتصاديين

يرى المحلل الاقتصادي محمد غزال أن أزمة الإيجارات في دمشق مرتبطة بتدهور الاقتصاد، وانخفاض قيمة الليرة، وتحول العقارات إلى ملاذ آمن للمال. كما أشار إلى توقف المشاريع السكنية خلال السنوات السابقة، وغياب مشاريع جديدة تلبي حاجة السوق، ما فاقم من شح المعروض ورفع الأسعار.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

ويضيف: الحل يكمن في تحسين الاقتصاد، وجذب الاستثمارات نحو بناء ضواحٍ سكنية جديدة على أطراف دمشق، بما يخفف الضغط ويخلق توازنًا بين العرض والطلب.

نحو حل شامل ومستدام

إن أزمة الإيجارات في دمشق لا تقتصر على بعدها الاقتصادي، بل تمتد لتشكل قضية اجتماعية وإنسانية تهدد استقرار الأسر وتعيق عودة النازحين. لا بد من تدخل حكومي فعّال يضع ضوابط عادلة للإيجارات، ويدعم المبادرات السكنية منخفضة التكلفة، ويشجع المستثمرين على بناء وحدات جديدة تراعي القدرة الشرائية للمواطنين.

تبقى دمشق، رغم كل الجراح، مدينة للحياة. غير أن هذه الحياة لا تكتمل إلا عندما يشعر أبناؤها بالأمان والاستقرار في بيوتهم. إن إعادة الإعمار لا تعني فقط ترميم الجدران، بل إعادة بناء الأمل، وصون كرامة الإنسان في وطنه.
فهل تتحرر دمشق من أزمة السكن كما تحررت من ويلات الحرب؟
الجواب رهن بصدق الإرادة، وشراكة جميع الأطراف في بناء مستقبل أكثر عدلاً وإنصافًا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط