تشهد الفترة الأخيرة ازديادًا واضحًا في أعداد الشبان السوريين الضالعين بجرائم قتل وسرقة واغتصاب، أو أولئك الذين يقدمون على الإدمان أو الانتحار، أو على الأقل يهددون به عند أي مشكلة تصيبهم.
إن هذه الآفات التي تصيب الشبان تحمل مسؤوليات مضاعفة لكل من الإعلاميين والداعمين النفسيين تدفعهم إلى تناول قضايا لطالما خشينا من تناولها بحجة فتح أبواب مغلقة أو تناول موضوعات لا وجود لها لكن الأمر يبدو مختلفًا.
إن هاتين الحجتين باطلتان تمامًا، إذ يكفي أن نتصفح عناوين أي موقع إخباري لندرك حجم الكارثة التي يمرّ بها المجتمع السوري، لاسيما أن هذه الكارثة بدأت تظهر في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في الشمال السوري.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
فخلال الأسابيع الماضية سُجلت في إدلب حالات انتحار عدة، إضافة إلى وجود جرائم قتل شنيعة يصعب وصفها، وهذا يستدعي منا جميعًا أن نتحرك بجدية بعيدًا عن العاطفة والمثالية التي ترنو إلى رسم المجتمع بنظرة طوباوية.
وسأدلل على ما سبق ببعض الظواهر التي تم رصدها، وهي جزء بسيط ممَّا جرى خلال الأشهر القليلة الماضية:
– في الثامن من شهر آذار الماضي أطلق شاب الرصاص على نفسه في مخيم (تل الكرامة) شمال إدلب بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة.
– وقبله بيوم واحد أقدم شاب يدعى (نوري محي الشريف) وهو من مواليد 1995 على الانتحار في مخيم (تجمع الأندلس) في محيط بلدة (زردنا) بريف إدلب الشمالي، عبر تناوله حبة غاز.
– في 13 كانون الثاني من العام الجاري أقبل شاب من عفرين على قتل أخته وزوجها في ريف إدلب، ثم عاد أدراجه إلى عفرين.
– في 21 من شهر آذار الماضي أقدمت امرأة تدعى (أم – أ) في قرية (فقيران) بريف منطقة جنديرس، على حرق الخيمة التي يوجد زوجها المدعو (أب. ع) بداخلها إثر شجار عائلي حدث بينهما.
– وفي يوم الأحد 3 كانون الثاني وُجد شاب مقتولاً ومرميًا على الطريق الواصل بين (دير حسان_قاح) بريف إدلب الشمالي.
اقرأ أيضاً: مدينة ألمانية تسمح لكل سوري بإحضار 100 فرد من عائلته!
– وفي اليوم نفسه تعرض الشاب (طه النعساني) المُكنَّى (أبو محمود الضبع) لإطلاق مباشر بواسطة رشاش من قبل مجهولين اثنين يستقلان دراجة نارية.
– وجاءت هذه الجريمة بعد يوم واحد من إعلان الطبابة الشرعية عن إيجاد جثة شاب مقتولاً على الطريق بين (كفريا_معرة مصرين) شمال إدلب.
– ويوم الثلاثاء 29 آذار أعلنت مديرية صحة إدلب عن وصول جثة مجهولة الهوية لشاب في العقد الثالث من العمر وُجدت على الطريق الزراعي بين (الدانا _ ترمانين) في ريف إدلب الشمالي وبعد الكشف تبيَّن أن سبب الوفاة هو النزف الصدري الصاعق الناجم عن طلق ناري، بالإضافة إلى حرق الجثة بعد الوفاة.
– وفي الرابع من شهر نيسان الجاري أقدمت فتاة تبلغ من العمر 19 عاماً على الانتحار في مدينة عفرين برمي نفسها من الطابق الثالث.
إن اقتصار دور الإعلام على رصد هذه الحالات وإحصائها والكشف عن تفاصيلها دون الغوص في الأسباب عرض التجارب وبثّ التحذيرات وتخصيص المقالات والتحقيقات لسبر أغوار هذه الظاهرة يجعله في موقع أحد المسؤولين عن زيادة هذه الظاهرة؛ لأنه لم يقم بالوظيفة الاجتماعية، واكتفى بنقل الخبر فقط.
لذلك فمن الطبيعي أن يتهمه الجمهور بأنه يروج لأفكار بهدف بثّها أو جعلها تبدو طبيعية في مجتمع شرقي من المفترض أن يكون بعيدًا عنها كل البعد.
وإلى جانب الإعلام يظهر النقص في ميدان آخر هو أكثر أهمية وتأثيرًا، إنها برامج الدعم النفسي التي تتركز في معظمها على أشخاص ربما ليسوا بحاجة دعم نفسي أصلاً (مدرسون، موظفون، كوادر..) وغيرهم من الفئات التي تكون أقل حاجة لهذه البرامج.
لذلك من الضروري أن تتركز برامج الدعم النفسي على المراهقين وأولئك الذين لا يملكون عملاً، أو حتى الشبان الذين دخلوا إلى السجون مهما كانت الجريمة التي تمت إدانتهم بها.
فالمعالجة السطحية لمرحلة المراهقة، والاقتصار على برامج تنمية الذات وعدم تناول القضايا الحساسة بطرق واعية تستند إلى الدين وتزرع في الشبان القيم الإنسانية السليمة لن يخلف إلى المزيد من الإجرام والانحلال الأخلاقي.
كما أن عجز الحكومات في الشمال السوري عن تخصيص دراسات وبرامج تخدم وتساعد المجتمع في تشخيص هذه الظواهر يجعلنا نقترب من كارثة حقيقية، إذ حتى الآن لا يوجد إحصائيات حقيقية لحالات الانتحار المسجَّلة في إدلب وريف حلب، أو حتى في البحث عن أسبابها أو الإشارة إليها، كل ذلك كيلا تكسر تلك الصورة المثالية التي نحاول رسمها للمجتمع الذي نعيش فيه.
رغم أن ذلك حالة طبيعية لمجتمع يعيش حالة صراع وحرب، فهل الحل يكمن في الكتمان أم في التشخيص والمعالجة؟
إن الحل يكمن في ترسيخ جميع الإمكانيات لتجديد كامل في آلية التعاطي مع قضية الانتحار من قبل برامج الدعم النفسي، وهذا يستند إلى اختيار الفئات المستهدفة بعناية والابتعاد عن تقديم البرامج التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وتقول إرشادات منظمة الصحة العالمية: إن الوقاية من الانتحار تحتاج تنسيقًا وتعاونًا بين جميع قطاعات المجتمع المتعددة؛ لأنه لا يوجد نهج واحد يمكن أن يؤثر بمفرده على القضية.
وتقول المنظمة: إن نحو نصف سكان العالم يعيشون في دول يوجد بها طبيب نفسي واحد تقريبا لكل 100 ألف شخص.
وفي مناطق سيطرة نظام الأسد تظهر الكارثة بشكل أكبر، إذ تسجل حالات الانتحار ازديادًا واضحًا إلى جانب الجرائم الأخرى، حيث تم تسجيل 31 حالة انتحار منذ بداية العام الجاري.
الجدير بالذكر أن سورية من أخفض معدلات الانتحار في العالم، بنسبة لا تتجاوز 1 من كل 100 ألف رغم الحرب وتبعاتها.
في حين حسب إحصائيات الصحة العالمية، فإن النسبة العالمية تتراوح ما بين 5 إلى 10 من كل 100 ألف، وهناك 800 ألف شخص ينتحرون سنويًا، وفي الـ 45 سنة الأخيرة زادت معدلات الانتحار في العالم بنسبة 60 بالمئة.