ربما صار هذا السؤال هو الأحجية المتداولة هذه الأيام في مختلف المجالس الشعبوية والنخبويّة على حدٍّ سواء، كلٌ على طريقته، بين (وين رايحة البلد؟ أو كيف شايف الوضع؟ إلى شو رأيك بيلي عم يصير؟ … وصولاً إلى أكثر الأسئلة تفاؤلاً، كيف نصنع النهضة والتغيير؟)
وربما تكون الإجابة الأكثر تداولاً أيضاً هي “الأمور إلى خير” عطفاً على أننا نخرج من أسوأ حقبة ممكنة في التاريخ، لذلك لابدّ أن يكون التفاؤل حليفنا، وهو تفاؤل مشروع وضروري، لأنه يحصننا تجاه العديد من خيبات الأمل الممكنة، والتي قد تبطئ أو تعوق الاندفاع والحماسة التي أنتجها النصر تجاه بناء البلد والدولة.
ليس كل شيء على ما يرام
إننا لا نتعجل الإنجاز عندما ننتقد أو نشير إلى مواضع الخطأ أو نطالب بالمحاسبة، فعقلية بناء الدولة هي عقلية قائمة على تلمس مواضع النقد وعلى تقبل الإشارة للأخطاء وعلى حسن التعامل مع الأصوات العالية عندما تكون محقة، وتفهمها عندما تكون خائفة، فالعديد من مؤسسات الدولة اليوم ليست كما يرام، ولا أريد أن أعدد هنا أمثلة يعرفها الجميع، وإنما أحاول الوقوف عند بعض الأسباب الجلية والتي من الممكن أن تتم معالجتها بسرعة معقولة.
لا يمكننا أن ننشد التوازن والإنجاز على حد تعبير أحد الاقتصاديين بناء على نظرية (الدراجة الهوائية) حيث أن هذا التوازن يكون مستنداً إلى الحركية فقط، وبمجرد توقف الحركة فإن الانهيار هو النتيجة، ذلك أن الإنجاز لم يستند إلى أرضية صلبة، وإنما إلى تيار حركي نابض تدعمه الطاقة بناء على قدرته على عدم التوقف، وهذا تماماً ما يمثل المرحلة التي نمرّ بها، مرحلة مشحونة بالعمل والحركة والتعب ولكن دون القدرة على التوقف، وبمجرد التوقف أو خروج لاعبين أساسيين من أي مؤسسة ربما تتوقف تماماً وتصبح غير قادرة على المتابعة.
كيف يتم الانتقال والمساهمة؟
من العناوين العريضة التي يتم تداولها هذه الأيام، هي أن مهمّة البناء هي مهمة مشتركة بين الناس والدولة والمؤسسات الخاصة والعامة، أي أن الجميع يجب أن يكون شريكاً في تحمل أعباء هذه المرحلة دون استثناء، لأننا جميعاً نرزح تحت وطأة إرث مُجهد من الأنظمة والقوانين والهيكليات المتآكلة والتي كانت تساهم في تخريب البلد وتدجينها بدلاً من بنائها وتطويرها، وعليه فإن الخلاص من ها الإرث هي مهمتنا جميعاً، وجميعاً هنا تعني كل أبناء البلد، وليس فئة دون أخرى.
اقرأ أيضاً: وزير المالية السوري: موازنة 2026 ستشهد تحولاً نوعياً يعزز الشفافية
ومن أجل ذلك هناك عدد من النقاط المحورية التي يجب أن يتم التركيز عليها في الوقت الراهن، وهي:
- دعم المصالحات الوطنية، وطي صفحة الماضي عبر ملف محكم من العدالة الانتقالية يتم فيه تعويض الضحايا ومحاسبة المجرمين، وإغلاق كل الملفات العالقة عبر عدالة متوازنة ونسبية يتم التركيز فيها على القضايا الأكثر أهمية والتي تخصّ الشأن العام والحقوق العامة دون تضييع للحقوق الشخصية والخاصة.
- توسيع مجالات الحرية، وذلك في العمل والرأي والنقد، لأنه من شأن البيروقراطية الجديدة في هذه الأوقات أن تحد من حماس رؤوس الأموال والعاملين على حد سواء في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ووضع القيود والشروط أو التعامل بخمول بعض القوانين القديمة سيبطئ جداً من حركية التعافي
كما يجب في هذا الصدد عدم الانصراف وراء الأخذ والرد واحترام النقد والرأي الآخر، والانشغال بالعمل والإصلاح بدلاً من الانشغال بمهاجمة المنتقدين أو الدفاع عن أخطاء أو تحركات أجهزة الحكومة، لأن الإنجاز هو الكفيل بالدفاع عن هذه الأجهزة، وهذه الحكومة اكتسبت أول شرعية لها عن طريق الإنجاز ومحبة الناس عندما حققت قواتها العسكرية التحرير.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
- الإسراع في إقرار الخطط والهيكليات والمخططات اللازمة لمرحلة النهوض والبناء، من أجل إيجاد أرضية يمكن الاستناد إليها للحد من الفوضى والعشوائية
- العمل باللامركزية الإدارية، بعيداً عن التقسيم السياسي أو اللامركزية العميقة، يمكن العمل بلا مركزية إدارية غير مباشرة عن طريق توسيع صلاحيات المسؤولين الإقليميين (المحافظين) والمديريات العامة الفرعية لفترة انتقالية على الأقل، تتيح لهم المضي بإمكانات أكبر في البناء، وتتيح لدمشق التفرغ لحل المشكلات ذات الحساسية العالية الداخلية والخارجية، والاهتمام بالمشاريع الكبرى على مستوى البلاد.
- بناء الأمن والجيش والشرطة على أسس من العدالة المالية والسلطوية في توزيع الموارد والأهمية لمنع الصدام بين أجهزة الدولة أو الانتقال العشوائي بينها من قبل الأفراد وتغول بعض هذه الأجهزة على بعضها الآخر، وانصاف مقاتلي الثورة وعدم تفكيك الفصائل بشكل كلّي، والاكتفاء بتنظيمها وهيكلتها، بما يسمح بتحركها بمرونة أكثر عند الحاجة لها، بسبب طول فترة الخدمة والقتال المشترك بين الأفراد ونشوء ثقافة التفاهم والتضامن بينهم.
- عدم الانجرار وراء عقلية الدولة الناشئة أو التجربة الفريدة، لأن مؤسسات الدولة في سورية تمتلك إرثاً كبيراً من البيروقراطية المؤسسية والقوانين التي صاغت مصالح الناس وحقوقهم وطريقة تفاعلهم مع الدولة لعقود، (يجب التعامل معها بمرونة وروية) ولا يمكن إلغاءها أو استبدالها بسهولة، دون مستندات قانونية وتشريعية جديدة تحمي هذا الانتقال، وإلا فستتصادم المؤسسات والأجهزة الحكومية وسيسودها حالة من العطالة بسبب عدم معرفة الخطوة القادمة.
- الاهتمام بالثقافة الوطنية والهوية الجامعة للشعب السوري، ودعم معتقدات الناس الأصلية وانتماءاتهم التي تسهم في ترسيخ الانتماء الوطني الجامع والذي يوفر الحماية والضمانة والأمان لكل المكونات في سورية، ويعيد تعريف الأكثرية كفئة تأخذ على عاتقها حماية الوطن وكل أطيافه ومكوناته، لا كفئة تفكر بالغلبة والاستبداد والتخوف من الأقليات، فسورية الحضارية أكبر بكثير من هذه السجالات، والأكثرية تاريخياً كانت تمارس حقوقها بعدالة فريدة وتَفهُم كبير لأبناء الوطن، الذين لا يجب وصفهم (بالآخر)، فالثقافة العربية الإسلامية كانت تسع الجميع وتوفر أقصى مساحات الحريّة، لأنها جزء أصيل من تكوين هذه الثقافة.
- أولاً وأخيراً وقبل كل شيء (التعليم) الاهتمام بتطوير التعليم في مراحله المختلفة وتوفيره وإعادة إعداد المعلمين بثقافة جديدة قائمة على حرية الفكر وفتح آفاق العلم والمعرفة، لا حصره بالمعلومة والنص، وغير ذلك مما يساهم بطمأنة العائدين على مستقبل أولادهم بشكل رئيسي، وجميع السوريين لاحقاً، لأن التعليم من أولى الأولويات التي يجب أن تهتم بها الحكومة على المستوى المركزي ومستوى المحليات، ذلك أن التعليم بالنسبة للأسرة السورية يقع في أعلى سلم الاحتياجات إلى جانب الأمن والصحة، وقد ظهر ذلك في أكثر من استطلاع رأي قمنا به في فترات متقطعة.
إنني لا أعيد اكتشاف هذه النقاط أو غيرها، ولا أدعي أن هذا كل شيء، أو إن هذه النقاط هي صائبة تماماً، ولكنني اعتقد أنها مفاتيح مهمة في المرحلة القادمة، وهي وغيرها تترد في مجالس وأحاديث السوريين أثناء سعيهم لتوصيف المرحلة والتشوّف للمراحل القادمة، حيث تسير سورية التي نسأل عنها بإلحاح، ونجيب بتفاؤل: “الأمور بخير”