ابتسم أيُّها الجنرال، “صفعة” مقابل عدالة غائبة

أحمد وديع العبسي

2٬110

شكّل عرض مسلسل ابتسم أيّها الجنرال تحديّاً فريداً ومشوّقاً عند السوريين، فهو لأول مرّة يلامس المحظور ويعبث بأوثان طالما حفّها التقديس وأحاطتها هالة من الخوف والظلام.

إنّ الاقتراب من الأسرة الحاكمة في سورية بهذا القدر لهو شيء من الخيال، فهذه الأسرة كانت تضع نفسها أمام الناس مع الأنبياء والعظماء وأنصاف الآلهة، وإنّ محاولة تجسيدهم في عمل درامي كانت فكرة شيطانية لدرجة أنّك ستستغفر الله مئة مرة إن راودتك أفكار كهذه، ورغم اندلاع الثورة السورية ونيلها من هيبة الدولة وحاكميها ووضع صور الطاغية تحت الأحذية، لم يكن أحد ليصدق أنّ عملاً درامياً سيتناول حياة هذا الطاغية وأسرته، ويعيد خلط الأحداث ببعضها ليفتح الباب أمام رمزية كل رسالة ومشهد في هذا العمل نحو أبعاد مختلفة وتأويلات تمتد على حياة الأب والابن معاً، ولا تقتصر على الفترة الحالية فقط.

لك أن تتخيّل القهر والقمع الذي كان يعيش فيه السوريون، عندما تعلم أنّنا كنّا نعتبر تمزيق صورة للطاغية خلال الثورة انتصاراً كبيراً يستحق أن نصوّره ونتداوله على الهواتف النقالة، ونعرض أنفسنا للخطر من أجله، ونخلع صفات البطولة على من قام بهذا العمل العظيم، إننا إلى الآن نتغنّى بلعن الطاغية الأب كواحدة من أهم أهازيج النصر المنتظر، إنّنا مسكونون بالخوف والفزع لدرجة أن لا أحد داخل سورية يجرؤ على الحديث عن هذا العمل الدرامي أو التلفظ باسمه أو تشغيله على التلفاز بصوت مرتفع خشية أن يتم اعتقاله أو قتله لمجرد أنه يتابع عمل يمسّ تلك الأوثان المقدسة.

لا أريد أن أدخل في مناقشة السيناريو والأداء، لأن الفكرة هنا هي الأساس، وهي ما يسيطر على أذهان المتابعين، الجرأة في تناول ما يحيط بالطاغية  والدخول لقصره وحياته الخاصة هي الجاذب الرئيسي للمتابعين لكي ينتظروا عرض المسلسل حلقة تلو أخرى يومياً. ولا شك أن توفّر ممثلين على قدر عالٍ من الاحترافية، وإنتاج جيد، أعطى العمل صبغة جدّيّة، جعلت المتابعين أكثر اهتماماً به. لكنّ الفكرة الأخرى المهمّة جداً والتي جعلتنا نهتم بهذا العمل هو أنه منحنا شعوراً بتحقيق الذات، بالاعتراف بما نعتقده، هناك من اعترف بنا، وبقضيتنا أمام العالم، نشعر أنّ جزءاً من رسالتنا تم تجسيدها في مرآة الواقع، فهي لم تكن تخيّلات وأوهام أو هرطقة لا أساس لها.

ابتسم أيّها الجنرال لا يروي قصة فريدة، فأغلب أحداثه يعرفها السوريون موالاة ومعارضة، ويعرفون أن الأفظع لم يحكى بعد، ولكنهم يرون فيه اعترافاً بهم، اعترافاً بالرواية التي عايشوا مأساتها عن هذا النظام وهذه الدولة المستبدة والقاسية.

هناك من تجرأ وحكى حكايتهم على الملأ وسمح لهم بمشاهدة انعكاس هذه الحكاية في مرآة كبيرة تجسد كل عذاباتهم وما يعتقدونه تجاه الطاغية الذي ثاروا في وجهه، وبهذا فقد أعطاهم إحساساً متميزاً بوجودهم في مجابهة من يصنع الحكايات والدراما في سورية ويظهرهم كمجرمين وخارجين عن القانون ومتشددين وحمقى، ليعطي لنفسه الشرعية لقمعهم ويكتب التاريخ باتجاه واحد فقط … ولأن الدراما تعيش أكثر من الوثائقيات ومن الأخبار ومن التقارير المصوّرة، يكتسب هذا العمل أهمية بالغة في سياقات متعددة تاريخية وسياسية ووجودية عند السوريين خاصةً وفي الدراما العربية عامةً.

لقد مثّل هذا العمل للناس شيئاً من العدالة، ربما صفعة مكبوتة في وجه النظام الذي وجّه مئات الصفعات والصواريخ والأسلحة تجاه شعبه، وما زال يشوه تاريخ وحضارة هذا الشعب من خلال الدراما التي يُنتجها ويعوِّمها ليخفي الحقائق ويكتبها على مزاجه، … هذا العمل جاء ليقول أن هناك رواية أخرى، ربّما هي الرواية التي يعرف الجميع أنها الأكثر صدقاً وموثوقية وتعبر عن حقيقة سورية وحاكميها …

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط