الاعتراف بالهويات

عبد الله عتر

900

عددهم حوالي (25) ألف.. وجدوا أنفسهم في منطقة واحدة..طرح الرسول عليه الصلاة والسلام إنشاء دولة من خلال تعاقد سياسي اجتماعي بين سكان المدينة.. بعد نقاشات وترتيبات أبرمت “صحيفة المدينة” خلال ثمانية أشهر من هجرة الرسول للمدينة كما يترجح..

أول اعتراف رسمي بالهويات الجماعية السكانية وتنوع الأعراق والأديان وأنها تشكل باجتماعها دولة واحدة..
نصت الصحيفة على الأطراف الثلاث الكبار في البلد.. مسلمون ويهود ومشركون..

(المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب)
(يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)
(وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة)

لكن المفاجئ لم يأت بعد.. تقدمت الصحيفة إلى عمق دستوري غير مسبوق ووصلت للتركيبة الداخلية للجماعات الكبرى..
فاعترفت بالمجموعات الأساسية ضمن كل جماعة سكانية كبرى..

المسلمون فيهم (8) مجموعات أساسية:
– المهاجرون: تم ذكرهم كمجموعة واحدة لأنهم كانوا واقعياً هكذا، أما مجموعاتهم الداخلية فكانت محدودة وغير منظمة بشكل قوي وازن.

اقرأ أيضاً: جدل في مصر بعد حرمان طلاب سوريين من الامتحانات

– مجموعات الخزرج: تم ذكر المجموعات الخمسة الأساسية (بني عوف، بني الحارث، بني النجار، بني ساعدة، بني جشم)
– مجموعات الأوس: تم ذكر مجموعتين (بني النبيت، بني عمرو) لأن بقيتهم كانوا مشركين عند كتابة العقد.

اليهود فيهم (9) مجموعات أساسية: (بني الشطيبة، بني عوف، بني الحارث، بني النجار، بني سَاعِدة، بني جشم، بني الأوس، بني ثعلبة، بني جفْنَة) تم ذكر كل واحدة في بند مستقل وبيان حقوقها وواجباتها العامة.

أما المشركون الوثنيون فقد كان عددهم قليل ومجموعاتهم صغيرة محدودة، لذلك لم تفصل مكوناتهم واكتفت بذكرهم كطرف واحد “مشرك”

ثم اعترفت الصحيفة لكل مجموعة بدينها وثقافتها الخاصة وأعرافها ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، لذلك جاءت بنود لكل مجموعة على هذا النمط:
(وأن بني ساعدة على رَبْعَتِهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى ويفدون عانيهم) (وأن بني عوف على رَبْعَتِهم..)
على ربعتهم أي على عادتهم وأعرافهم وطريقتهم ونظامهم، ذكرت مثلاً دفع الديات وافتداء الأسير حيث لكل مجموعة طريقتها في التضامن لمواجهة المشكلات..

أي أنه تم الاعتراف السياسي بـ (18) مجموعة سكانية أساسية باسمها وهويتها المعلنة..
هؤلاء كلهم أهل المدينة أهل الصحيفة: (بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة) (يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة)

لم تتوقف سياسة الاعتراف هنا..
انتقلت الصحيفة إلى الاعتراف بشبكة الحلفاء الاجتماعيين لكل الأطراف، فالمجتمع حينها كان يتركب من الجماعات الأساسية وحلفاء أصغر يرتبطون بها بشكل صريح:
(وان بطانة يهود كأنفسهم)
(أن موالي ثعلبة كأنفسهم)

ثم الاعتراف بالمستقبل وبكل القادمين منه.. من انضم وتبع أهل المدينة في المستقبل من المؤمنين واليهود فإن له العضوية المتساوية:
(المؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم) (وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين) الأسوة تعني المساواة..

صحيفة المدينة التي أبرمها الرسول عليه الصلاة والسلام بين سكان المدينة وأسس بها الدولة اعترفت ب (18) مجموعة سكانية أساسية وذكرتها بالاسم وأعطتها حقوقها وحريتها كجماعات..

جماعات دينية كالمسلمين واليهود والمشركين، وجماعات عرقية ثقافية لها هويتها الخاصة وتنظيمها المستقل مثل بني عوف وبني ساعدة..
(وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين)
(المؤمنين من قريش ويثرب)

الحقيقة أن مجرد التفكير في ذلك يعتبر صعباً على عقولنا الحديثة..

تخيل أن يعترف الدستور الفرنسي رسمياً بالجماعات الكبرى الدينية والعرقية الثقافية في فرنسا.. ويعترف بالمجموعات الأساسية تحت الجماعات الكبرى.. بوصفهم المؤسسون للدولة الفرنسية..
مثلاً سيبدأ الدستور هكذا:
(نحن الفرنسيون بجميع أدياننا وأعراقنا أمة واحدة، المسيحيون والمسلمون واليهود والوثنيون..
ونحن بتنوعنا العرقي والثقافي متساوون في الحقوق والواجبات ولكل جماعة حقوقها ونظامها ودينها، الباسيكيون والكتالونيون والأليزاسيون والكريوليون..
والقادمون من أصول أمازيغية، والمسلمون ذوي الأصول السورية والفلسطينية والأفغانية والمغاربية، واليهود السفاريم والأشكناز، والمسيحيون الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وكل من انضم بإرادته الحرة للمواطنة الفرنسية..)

بدل كل هذا التنوع والاعتراف يعتمد الدستور الفرنسي هوية وطنية صارمة ساحقة لكل ما عداها.. يتم تفكيك كل الجماعات دستورياً وتحويلها إلى أفراد متناثرين أمام الدولة.. ثم بناء الدولة على أنقاض الجماعات..
هكذا يصبحون مواطنين فرنسيين كأسنان المشط بلون واحد وكأنهم منتجات متماثلة في خط إنتاج وطني متقن جداً..

النص التالي هو الموجود اليوم في المواد الأولى:
(يعلن الشعب الفرنسي رسميًا تمسكه بحقوق الإنسان.. تمنح الجمهورية للأقاليم الواقعة ما وراء البحار التي أعربت عن إرادتها.. المواطنون الفرنسيون..)

في المقابل لنتخيل لو أن صحيفة المدينة المنورة كُتبت بالمنطق الفرنسي الحديث:
(يعلن أهل المدينة رسمياً أنهم أمة واحدة يتمسكون بنصرة المظلوم والحقوق، السكان المدنيون كلهم متساوون..)

هكا لن يظهر بني ساعدة.. بل يتم يتم تفكيكهم والقضاء عليهم على المستوى الدستوري..
يسمح لهم بالظهور كأفراد مبعثرين أمام جبروت الدولة الديمقراطية.. خلعوا هويتهم الخاصة عند باب البيت أو الحارة..
تنطفئ كل الأضواء ويشتغل ضوء الهوية الوطنية العلمانية الواحدة..

صحيفة المدينة لم تطلب من أحد أن يزيح هويته جانباً ويتحدث باسم “مواطن المدينة” فقط.. ولم تفرض هوية أحادية تسحق وجود بقية الهويات دستورياً..

تركت لليهود دينهم وكتابهم كما هو، ولم تتدخل كي تدمجهم في هوية المدينة الجديدة وتجلس بدل حاخامات اليهود تقرر ما هو الدين اليهودي الصحيح وتتدخل في نظام التعليم الديني..

لم تطالب الشخص أن يخلع عنه هويته الاجتماعية والدينية كي يتقدم للدولة.. بل تطالبه أن يتعاقد مع بقية الهويات دون إخفاء نفسه والتخفف من هويته حتى يصير محايداً.. أيديولوجيا الحياد معادية للتنوع والتعددية والاعتراف..

أمامنا نموذجين:
نموذج التنوع يُبنى على الاعتراف بالهويات والجماعات، والاعتراف بها يمنحها الكرامة والحرية والإنصاف.. نسمع صوت بني عوف اليهود وبني ساعدة المسلمين..

نموذج الأحادية يُبنى على تذويب الجماعات ليصبح الكل “مواطن” مجرد أعزل، لا نسمع صوت أي مجموعة غير الدولة..

نموذج التنوع يضمك للدولة كما أنت.. نموذج الأحادية يطلب منك أن تنسى من أنت حين تتقدم للدولة..
هنا تعيش في مجتمع يراك ويعترف بك.. هناك تكون في مجتمع يعيد تشكيلك..
هنا تتقدم للعالم كمواطن له هوية وحرية خاصة، هناك تتقدم للعالم كمواطن أملس..

صحيفة المدينة تبني دولة تشبه أهلها.. الدولة الفرنسية تصنع سكاناً يشبهونها..

صحيفة المدينة مرآة لطبيعة الناس والوجود “مختلف ألوانه”.. أما النموذج الآخر فهو مرآة لأيديولوجيا الشعب المصمت “لون واحد”..

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط