التعليم العالي بين الولاء السياسي ومعايير الكفاءة

محمد نديم مصطفى

وزارة التعليم العالي
2٬021

الذي عرفناه طيلة العقود الماضية هو “الاعتماد المظلّي” في سياق التعليم العالي، حيث تُمنح الامتيازات التعليمية لأبناء الحزب الحاكم وزبانيته والدوائر الأمنية، ليس استنادًا إلى الكفاءة العلمية، بل إلى الولاء والانتماء. شهادات تمرّ من تحت الطاولات، وفرص دراسية تهبط بالمظلّات، معلّقةً فوق ضوابط القبول ومعايير الجودة.

لكن ما نعيشه اليوم، في مرحلة ما بعد “التحرير”، لا يبدو أقل خطورة، بل هو شكل آخر من الاعتماد السياسي، وهو “الاعتماد الثوري”، حيث يعلو الصوت مُطالبًا بمنح الامتيازات الجامعية لأبناء الثورة، لا بصفتهم الأكاديمية، بل باعتبارهم أصحاب حقٍّ نضالي.
وحتى لا “يتفقهن” متفقّهٌ، أنا أعرف تمام المعرفة، ولمن أراد التفصيل في معرفتي، فله ذلك على العلن أو في الخاص. أعرف أنّه لا مقارنة بين زبانية النظام وحاشيته ومنتجاته — وإن كان منهم من يتصدّر الآن، ومن تصدّر خلال عقد مضى — وبين شبابنا وأهل ثورتنا؛ أعرف ذلك وأعيه، وليس هو مقصدي.

اقرأ أيضاً: في حوار صحفي..محافظ حمص: سنعيد الحياة للمدينة ونسترد الحقوق لأصحابها

لكن في الحالتين، تُعلّق القواعد الأكاديمية لصالح معيار خارجي — الولاء أو التضحية — وتتحوّل الجامعة إلى أداة ترضية سياسية، لا مؤسّسة علمية.

فـتحت ضغط الشارع والإعلام، وبشعارات مثل “الوفاء للثوّار” أو “الشرعية الثورية”، يُطلب اعتماد برامج ومؤسسات تعليمية لا تستوفي المعايير في إطار التعليم العالي، فقط لأنها تمثّل “مكوّنًا ثوريًا”. ويُصبح الدفاع عن الجودة الأكاديمية أشبه بالوقوف في وجه “الثورة” — تهمة جاهزة تُسكت كل من يطالب بالكفاءة أو المعيارية.
والأخطر أن هذه الثقافة أعادت إنتاج منطق النظام الذي أطاحت به الثورة: ثقافة الاستثناء، وشرعنة الامتيازات خارج إطار القانون والمؤسسات.

حتى وصل الأمر إلى إلغاء الامتحان الوطني الموحّد بعد التخرّج، والذي يُعد صمّام الأمان لضمان الحد الأدنى من جودة التعليم، ولضمان تحقق الضوابط المؤسساتية. والغريب أن هذا الإلغاء لم يكن مطلب فئة محددة، بل جاء نتيجة تماهي شرائح مختلفة — من جامعات النظام السابق، ومن مناطق محرّرة — مع منطق “الاستثناء هو القاعدة”.

نحن أمام لحظة فارقة في مسار التعليم العالي؛ لحظة تستدعي وقفة صارمة وصوتًا عاليًا، لا يساوم ولا يناور:
التعليم العالي ليس مكافأة، ولا تكية، ولا منبرًا للشعارات. لا يُدار بشعارات “الشرعية الثورية”، ولا يخضع لمنطق “المحاصصة النضالية”، ولا يُفتّت بهيمنة الولاءات، سلطوية كانت أم ثورية.

إذا كانت للثورات تضحيات، فإن أقدس هذه التضحيات هي بناء مؤسسات حقيقية لا تُخضع للابتزاز السياسي، بل تؤسَّس على الكفاءة، وتُدار بالمعايير، وتحميها القوانين لا الشعارات.
الجودة الأكاديمية ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة. وهي لا تعني ترفّع النخب، بل توفير تعليم متماسك يخرج كوادر حقيقية تبني لا تهدم.
“لا تعليم فوق القانون، ولا استثناء باسم الثورة.”

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط