كانتْ جميلةً جدًا كفرحة طفل بلعبتِه الجديدة، هادئة الملامح مخمليّة، تبدو كأنّها هاربةٌ من حكايات الجدّات!
نسجتُها من خيوطِ مخيلتي أيام المراهقة، وها هي الآن متمثّلة أمامي بكامل سحرها وفتنتها.
ضلعي الذي خبّأته عندَ أهلها سنينًا حان الوقت لأستردّه…!
لأوّل مرّة تقف الحياة بصفي، وتغمرني بفيض عطائها…! كحدسٍ إنسانيٍّ راودني “هناك مكروه سيحدث”.
تلك البومة القابعة على ضلعي الثاني عشر تستيقظ ليلًا وتبدأ بنعيقها المشؤوم…!
أحاول إسكاتها لكنها تتمرد على كل شيء…!
الأيام بالفرح تمضي سريعًا، والزمنُ يتحوّل إلى عدّاء سريعٍ، حين نكونَ مع من نحبّ…!
أتى ذلك اليوم الموعود، اليومُ الذي في ظاهرِه تتجلّى السعادة، وفي باطنه يختبئُ الجحيم.
التاسع والعشرون من حزيران الظلامُ يطولُ، والفجر يأبى أن يبزُغ، كأنه قرأ ما خطّته يد الأقدار ينسحب الليلُ على مضض وتسكبُ الشمس نورَها في كأس الصباح المكسور.
لأوّل مرة لم يداعب النسيم وجنتيَّ ولم يتوسّل الياسمين، لأصنعَ منه تاجًا يليق بأميرتي…!
كان أرحم مني بقلبها، لا يريد أن يكون ذات ذكرى سببًا في فيض مدمعها•
ماذا يعني العرسُ في الريف.؟! يعني أن تحتفلَ معكَ حباتُ التراب، وسحبُ السماء.
يعني أن تتحوّل زهرات النانرج إلى قناديلَ مضيئةٍ تتمايل بغنج كلما لامستها أنامل الرياح.
العرس في الريف، حدثٌ مميزٌ جدًّا يضفي مسحةَ حيوية وسعادة على ملامح الجميع. الأطفال يضحكون ببراءة، والنساء يُطلقن زغاريدها المعتادة.
لقاء هو الأول من نوعه بين أحزاب سورية معارضة وبين رئيس الحزب الجمهوري التركي
تحدّثني تقولُ إنّها خائفة اهدّئها وقلبي يرتجف تشدّ على يدي وكأنّها تتمسك بي ترجوني البقاء…!
أهمس لها: “سنكون معًا سننهي عهدَ تلك السنوات العجاف، وسنبدأ عهدًا جديدًا، نكتبه معًا ”
كذبت عليها وقتئذ لا أعلم لماذا، لكن كنتُ أريد أن أطمئنْها فقط…!
أراها صامتةً وعيناها لا تكفّ عن الحديث تراقبني، كأنّها تريد أن تطبعَ ملامحي في ذاكرتها
كنّا غارقَين في عالم غير هذا العالم عالمٌ يسوده الوداع الحزين والفقد المروّع.
قلت لها: “يا سكرة أيامي أنتِ جميلة جدًا، وقويةٌ جدًا، الحياة تهون بابتسامتك تذكري هذا
وتذكري أيضًا أنني أحبك جدًا، وأمنيتي الوحيدة أن يأخذني الموت وأنا بين يديكِ
أن أغلِق جفنيّ وصورة وجهك تكون آخر ما قد رأته عيناي” تفر من عينيها دمعةٌ عصية، ينقبض فؤادها… آثار أناملها تبدأ بالظهور على كفي…!
حينها وقف الزمنُ للحظة كفّت الأرض عن الدوران هنيهة اكفهرّت السماء وازداد المكان شحوبًا صوت هدير الطائرة طغى على صوت الموسيقا ثم ثم… الموت ساد المكان الدماء تناثرت الشظايا خدشت القلوب والصدور
حينها لم يخطر ببالي سواها، أردتها أن تعيش، فديتها بنفسي، تكورت عليها، وخبأتها كما يخبئ الأب ابنته الصغيرة بين أحضانه، خشيت عليها من الموت ولم أخشَ عليها من غيابِي.
فجأة تحول عرس الفرح إلى عزاء تعيسٍ، وتحول ثوب الزفاف الأبيض إلى كفن يحتضن بقايا أمانٍ مفتقد!
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
“الحرب مرة أخرى تقف أمامنا، الحربُ يا صغيرتي كانت أقذر من أحلامنا الطاهرة،
نبدو أمامها كطيور السنونو وهي وحشٌ أسطوريٌّ طائرٌ ينفث النار في كل حين،
أرجوكِ اغفري لي هذا الغياب، ولا تبكي على رحيلي بل ابتسمي وابتسمي،
فارس أحلامك غدا شهيدًا بإذن الله ولنا لقاء عند رب العزة سنخبره حينها بكل شيء…”
عشرات السنوات مرت
ولا زالت كل ليلة تستيقظ فزعة
اليوم نفسه يقتحم أحلامها
تراه غارق في دمائه
تتزاحم العبرات في مجرى دمعها
يُضرم الشوق نيرانه في أضلعها
لا شيء يهدّئها سوى صندوق خشبي قديم يحوي رسائل وصور تنتمي إليه، وحلم كانت ستتقاسمه معه ذات يوم.
عشرات السنوات مضت جعلت منها فتاةً أخرى.. فتاة لا تمت لها بصلة…
هي الآن باهتة منطفئة، لا ترى للأشياء أي قيمة، تساوى في نظرها كل شيء الحياة تهدينا ذكريات تجعل فؤادنا يشيب وجعًا ونحن مازلنا في شرخ الشباب.. قالوا: إن الحرب انتهت..
والسلام عاد ليسكن بلادنا احتفل الناس كثيرًا، وبدؤوا من جديد بعمارة هذا الخراب.
عادت الأعراس لتقام اليوم، كان زفاف فتاةٍ وليدة الحرب، جلستُ إلى نافذتي أراقب تلك الفتاة وهي تُزفّ، تمنيتُ لها سعادة عارمة، ورجوت ألا يحدث شيء يشوّه ابتسامة ثغرها كما حدث معي منذ عشرات السنوات، حين كانت الحرب تسود البلاد.