الصيام كنقطة انطلاقة متجددة للتغيير

أحمد وديع العبسي

الصيام- الصوم
117

الصيام هو أحد الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام، وهو الركن الرابع، في مسيرة المسلم نحو بناء شخصيته القويمة التي يستمدها من أساسات دينه وحياته.

فلا بدّ قبل الصوم، من الشهادة والإيمان، ومن إقامة عماد الدين (الصلاة) التي تميّز الشخصية المسلمة بأن تجعلها على علاقة دائمة ومباشرة مع الخالق دون أي وسائط، ولخمس مرات كل يوم، يقف فيها المسلم ليناجي ربه ويحادثه ويفضي إليه ويراجع أوامره ونواهيه، ويجدد عهد التوحيد معه في خضم أعمال الدنيا ومشاغلها، فتبقى الصلاة تمسك بالمسلم وتضعه على الطريق الصحيح، دون أن تعطيه فرصة لينحرف عن جادة الحق لوقت طويل، إذا ما أصابته فتن الدنيا.

لذلك “مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا” كما جاء في الحديث، لأنها لم تحقق أسباب التواصل والقرب والحفظ من الزلل والاتصال مع الخالق والمحبة والخضوع.

وبعد الصلاة تأتي الزكاة، الحق في عطاء الله، وفي الزكاة قراءات كثيرة لعل أقربها، إنها اعتراف بأن كلّ ما يجنيه الإنسان هو من فضل الله، وبراءة من أيّ حولٍ أو قوةٍ إلا من حول الله وقوته وعطائه، فهو صاحب الفضل، وهي تهذّب النفس بأن تُعود المسلم على التصرف في فضل الله وفق أوامره، دون أن يدعي الإنسان أنه صاحب العلم أو المعرفة في الأرزاق فيدّخرها لنفسه، إنما هو مؤتمن عليها، يؤدي حقها زكاة وصدقة، وإنعاماً من الله عليه وفق ما أمره الله في التنعم.

ورابعاً يأتي الصيام، بعد تمام العلاقة وتمام الطاعة الظاهرة، ليكوِّن تلك العلاقة الخاصة التي لا يطّلع عليها إلا المسلم وربه، حيث يمتنع المسلم عن بعض أسباب الحياة من المباحات، ويهذب من نفسه ويسعى في طلب رضى ربه، خضوعاً وحباً لله وأوامره، فيصوم ويقوم ويتقرب بالصدقة والنافلة، حتى يدرك الأجر الذي لا يعلمه إلا الله.

وأخيراً يأتي الحج سعياً عملياً وتطبيقياً للأركان كاملة، بذلاً للجهد ورحلة للجسد، وإتماماً لرحلة القلب وطاعةً على المشقة والكلفة والإخلاص.

أعود للصيام، وهو موضوع هذه المقالة، وكيف يكون الصيام نقطة متجددة للتغيير في كل عام، من خلال فهم الاستراتيجية التي يقوم عليها الصوم؟

الصوم يقوم على ثلاثة محركات أو دافعيات رئيسية هي (المنع والسعي والعطاء) هذه المحركات تعيد فرملة وضبط الشخصية المسلمة نحو نظامها القويم، الذي يجب أن تنطلق منه لبناء العالم وعمارة الأرض، وحيث أن أي إنسان في إدماج مباشرة مع الناس والحياة والبناء والعمل، يُحتمل أن يختل نظامه أو تصيبه حالات فراغ في الروح والمعنى والهدف والرؤية، يأتي الصوم ليعيد ضبط شخصية المسلم ويزيح عنها أعباء الفوضى ويمنحها فرصة لإعادة الانطلاق والتغيير والتطوير ورسم أهدافٍ ورؤى جديدة تتناسب مع ما حقّقه من قبل، ومع غاياته التي يحيا لأجلها حسب الرؤية الاستراتيجية، بمعنى أدق يعمل الصوم على ضبط البوصلة نحو الاستراتيجيا (الغايات) في كل سنة حتى لا تصبح الأهداف المرحلية أو الوسائل غايات عند الشخصية المسلمة.

يبدأ الصيام عمله بالمنع، المنع عن المباح (أسباب الحياة) الطعام والشراب والجماع، يفهم المسلم أن هذا المنع غير مرادٍ لذاته، كما جاء في الحديث “مَنْ لَمْ يَدعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ فلَيْسَ للَّهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابهُ” وإنما هو تأكيد على ضبط النفس ومنعها مما هو أخطر وأعظم، وإعطائها فرصة لتتدرب على ترك المعاصي بتركها المباحات، فالامتناع عن الحرام أولى.

اقرأ أيضاً: فإذا دخلتم عليهم الباب فإنكم غالبون

فالمنع تدريب على الطاعة، ووقفة مع النفس في لزومها، إذ أن النفس عندما تترك بعض أسباب الحياة، تهدأ وتصفو وتتفكر في ترك ما نُهيت عنه، والمنع هذا يعيد رسم حدودك الخاصة مع نفسك ومع الآخرين، فيعلمك أن تكبح أيضاً انفعالاتك وغضبك، وألا تنجر لمساحات لا تناسبك في التعامل مع الآخر وتؤذي فيها نفسك بلا فائدة ” إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ”

فهذه واحدة من أعظم التدريبات التي يعمل عليها الصوم، يعلمك ألا تدخل مناطق تؤذيك حتى لو فزت فيها في النهاية، لأنها تؤذي نفسك وتؤذي أخلاقك، وتهدر طاقتك وقوتك، ويعلمك الصفح والمرونة والعفو وضبط النفس، والانتصار للحق لا للذات، فأنت تمتنع بالصوم عن كل ما يعكر صفاء نفسك وهدوء روحك، لتكون جاهزاً للمرحلة الثانية في صيامك وهي السعي والجهد والاجتهاد والدأب.

السعي يبدأ من الاستفادة هذه الطاقة التي كانت مهدورة، واستثمارها في وجوه الخير، كأن تحول الغضب إلى دعوة، وتستغل الوقت بالعبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمنع الذي يوفره لك الصوم، يجعل سعيك أكثر إخلاصاً، مجرداً من الأنانية والمنفعة إذ أنك لا تنتظر عليه أجراً أو كسباً، فتركك للمباحات يجعلك أكثر زهداً بالمكاسب السريعة وأكثر تطلعاً للغايات والرضا من الله، لأنك لو أردت المكاسب القريبة فلا داعي للصوم، الذي يمنع عنك الكثير منها اتباعاً لأمر الله فحسب، والصيام عبادة لا يطلع عليها أحد من الناس، فهي تعلمك الإخلاص.

ثم نأتي للمحرك الثالث والأهم، والذي يعيد برمجة النفس كلياً، فبعد كل هذه العبادة والامتثال والإخلاص، هل ستكون المرحلة الثالثة هي الأخذ والربح والجائزة، يجيب الصيام: ليس بعد! …

العطاء وهو القسم الأهم، لأنه في نهاية هذه العبادة ستفرض عليك صدقة خاصة بها، بعد المنع وبذل الجهد والسعي، لن تأخذ، بل ستعطي، وكأن الصوم يريد أن يجردك من حولك وقوتك في القدرة على الصيام، لتُخرج صدقة تحمد فيها الله أن أعانك على هذا الصوم، فيكون شهر رمضان منعاً وسعياً وعطاء، يدرب النفس أن تبذل وتبذل، أن تسعى ولا تنتظر النتائج، أن تعقد النية وصدق العمل والدأب والإخلاص والإمعان في الخضوع لأوامر الله، ثمً ماذا؟

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا

هل ثمة أجر مباشر، ليس بعد، ستبقى معلقاً بالغايات التي لن تدركها إلا في النهايات العظيمة، عتقاً من النار ورضاً من الله إن صدقت وبررت وثبتّ. إن كنت قادراً على أن تعيد هذا في كل عام لتثبت إخلاصك وعدم تغيرك والتحسن في كل مرة.

سيكون هناك جوائز مرحلية كليلة القدر وفرحة العيد، ولكنها جوائز بعطاء خفي “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به”، لن تعلمه إلا بقدر إصرارك على الاستمرارية في هذا النهج، والتعلم من هذه المحركات.

إن التغيير والاتجاه نحو الأهداف الكبيرة يحتاج الصدق في التضحية والامتناع عن أمور نحبها، والسعي والإخلاص على المشقة، وتحمل الناس، ومعاشرتهم بلين ولطف، ثم العطاء والبذل في سبيل هذا الهدف، ليحصل التغيير المنشود في النفس وفي العالم.

ثلاث محركات بسيطة يعلمنا إياها الصوم، أولاً الامتناع عن رغباتنا والتضحية وتقبل المحيط الجديد الذي سينشأ حولنا أثناء التغيير بلطفٍ ومرونة من أجل ألا نحبط البدايات، ثانياً السعي والعمل والدأب في الطريق الذي اخترناه، والاجتهاد في ذلك، وثالثاً الإخلاص في العطاء والإمعان في البذل في هذا الطريق وعدم استعجال النتائج أو الركون لنتائج مرحلية والفرح بها، والعقد على الاستمرار … عندها لا بدّ أن يحدث التغيير الذي نأمله.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط