الطغيان والليبرالية .. أبعاد النظرية القاتلة

أحمد وديع العبسي

0 919

تُعرف الليبرالية نفسها بشكل مرادف للحرية، بل أعلى درجات الحرية المطلقة التي أنتجتها الحضارة الغربية بعد تجارب وحروب قاسية، والليبرالية كحالةٍ اجتماعية وثقافية وفلسفية نتج عنها نظريات عديدة في مختلف مجالات الحياة، واتصلت بشكل رئيسي بمصطلحات العلمانية والرأسمالية والسوق الحرّ والبراغماتية وغيرها من النظريات والمفاهيم التي تدور بشكلٍ رئيس حول البعد المادي في الحياة، رغم أن الليبرالية جاءت لتكون تجسيداً للحرية التي تتداخل فيها الأبعاد المادية والمجردة.

إن تعايش الغرب مع الليبرالية جعله يعتقد أنها نظرية كاملة، وأنها معتقد متعالٍ على ما حوله، ولأن الحرية المطلقة لا يمكن أن تحدّد، وبالتالي لا يمكن أن يتم نقلها للآخرين كرسالةٍ حضارية، بدأت الحضارة الغربية في فهمها الحداثي وتطويرها للنظرية الليبرالية بوضع محدداتٍ لها، أو بوصف طبيعة هذا المفهوم الذي أراد عند تأسيسه أن يكون واسعاً جداً، وإذا به مع مرور الوقت القصير نسبياً يتحول لمفهوم ضيق لا يعبر عن نفسه بقدر ما يعبر عن فهم المجتمعات المنتجة له، وليس هذا عيباً في المفاهيم، وإن كان عيباً في التفسيرات الحداثية لها، حيث أن صفات الإطلاق والمدلولات المفتوحة، والسياقات اللغوية التي تسند للمتلقي هي التفسيرات التي كانت رائجة بالعموم في هذه الفترة.

ولكن العجيب أن يكون التحوّل الذي طرأ على الليبرالية شقلب المفهوم رأساً على عقب في إطاره التطبيقي، فتحول إلى مفهوم شمولي ونظرية استبدادية، ترى في نفسها التفوق والتعالي والمعتقد الذي يجب على الآخرين أن يعتنقوه بالقوة من خلال جميع وسائل العولمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والعسكرية حتّى. هذا التفوق مقرون بالفهم والتفسير الغربي للمصطلح، وليس في أساس النظرية القائم على الحرية واحترام الناس واختلافاتهم.

فليس للإنسان كما يرى الليبراليون أن يختار شكلاً آخر للحكم غير الديمقراطية إلا إذا كان مقموعاً، لا يملك الاختيار أصلاً، كما ليس له الحرية بأن يختار أشكالاً معينة من التدين، إلا إذا كان جاهلاً، فدين الإنسان الحرّ يتسق مع ضرورات الليبرالية بشكل مؤكد!!

تمارس الليبرالية اليوم عنفاً كبيراً تجاه النظريات الأخرى وتجاه التيارات الحضارية الأخرى التي لا ترى فيها مفهوماً جديراً بالاقتداء، يتمثل هذا العنف بازدراء الآخرين والتعالي عليهم ووصمهم بالتخلف والرجعية والدونية، ومحاربتهم في بلدانهم، ودعم التجمعات التي تتعبد بالليبرالية بجميع الوسائل الاقتصادية والإعلامية والعسكرية لكي يستطيعوا قهر مجتمعاتهم، وقمع الحريات الفردية والجماعية فيها إذا لم تقم على اختيار الليبرالية كمقتضىً للحرية.

بل إن الليبرالية لا تمانع من دعم أعتى الطغاة والمجرمين حتى وإن لم ينتسبوا إليها، في سبيل ألا تصل نظريات أخرى للسلطة لا تتوافق مع مبادئها الغربية المحددة الضيقة التي تتعارض مع الذات الليبرالية في أصل وجودها وتعريفها. وتنقلب الليبرالية على وسائلها وتسفه نتائجها وتحارب منتجاتها إذا جاءت على غير مصلحة الليبرالية الغربية، كما فعلت مع نتائج الانتخابات الديمقراطية في فلسطين ومصر وغيرها، وكما ازدرت دائماً نتائج الانتخابات التركية، وحاولت إسقاط ديمقراطيتها أكثر من مرة.

ولا عجب أن تسمع بعض مدعي الليبرالية في الشرق والغرب يحاربون اليوم الديمقراطية كوسيلة لحرية الشعوب في اختيار من يحكمهم، وقد سمعت ذلك منهم غير مرة، لا لنقص في الديمقراطية، بل بادعاء أن الشعوب الشرقية جاهلة ولا يحق لها الاختيار، بل يجب أن تحكم بالطغيان ليبرالياً، وإلا فالحرية ستوصل المتطرفين للسلطة!!!!!

ولا يخجل الليبراليون من الاستعانة بالأعداء، أو بقوى خارجية للاستقواء على أبناء وطنهم من أجل وصولهم للسلطة وقهر خصومهم، وليس ذلك حباً بالحرية، فالحرية لا يتوصّل إليها بالقهر والعنف مهما طال سبيل المناضلين في سبيلها، ولكنّ الأمر كلّه منوط بالمادية والمصلحة والمنفعة، وعدم السماح لأي نظريات أخرى بالنجاح على مستوى السلطة لكيلا يمتد هذا النجاح إلى مستويات ومجالات أخرى في الاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم.

فالليبرالية لم تأت لتحرر الإنسان، بل جاءت لتحرر أدوات الإنتاج في سبيل الربح، فانتشارها كفكرة سياسية جاء في العام 1776 عندما نشر آدم سميث الاقتصادي الاسكتلندي كتابه “ثروة الأمم”، فهي في أصلها نظام اقتصادي لا إنساني، هدفه أولاً وآخراً الربح لمن يملك المال والسلطة وليس الرفاه للبشر، ولو لم تكن كذلك، لما رضيت بأن تبني سعادة الغرب على حساب شقاء بقية العالم، الذي تستغله الحضارة الغربية أبشع استغلال إنسانياً وبيئياً في سبيل رفاهها، وتغرقه في الحروب في سبيل بقائها.

جاءت الليبرالية لتحول الإنسان برمته إلى آلة في النظام الاستهلاكي، تُنتج وتستهلك في الوقت نفسه لتحقق أعلى معدلات الربح لمن يملكون السلطة والمال وأدوات الإنتاج، فهي تتسم بنزعة استهلاكية، ذاتية، فردية، نرجسية، لا تحترم إلا قيم الربح، وبهذه الصفات تستطيع فهم حريتها المدعاة، وتستطيع أن تفهم كيف تدعم الشذوذ واللاأخلاق وانحلال المجتمع وغرقه في الشهوات والغرائزية في الدعاية والإعلام.

لذلك ترى أن كل وسائل الديمقراطية يمكن السيطرة عليها إعلامياً واقتصادياً، وليس هذا مصادفة، بل هو ركن أساسي أخذه بالاعتبار واضعو النظرية والمروجون لكذبة الحرية في داخلها، فأنت حرّ ما دمت تخدم عجلة الاقتصاد والربح، وغير ذلك أنت متطرف رجعيٌ لا تعرف الرفاه ولا تدرك السعادة الكامنة في الاستهلاك والغرائز.

فالإنسان كما ترغب به الليبرالية الغربية إنسان غارق في المتعة والحرية مستهلك يبحث عن اللذة والربح، وهو في نفس الوقت مُنتجٌ عامل يؤمن استمرار السوق وتوفر السلع، حتى لو صار هو نفسه السلعة، ولم تغير الليبرالية الجديدة هذا المفهوم، وإنما وسعته وعمقته ليصبح أكثر تركيزاً على الاقتصاد والربح والمنفعة والغريزة واستغلال الناس، وأندر اهتماماُ بالجوانب الإنسانية في الحياة. فهي حتى عندما تحمي الناس وتهتم لصحتهم وإنقاذهم وغير ذلك من الجوانب الإنسانية، فهي إنما تحمي أدوات الإنتاج لا القيم الإنسانية، لهذا يظهر بوضوح الاهتمام بالجوانب المادية وإهمال الجوانب الروحية، ولذلك فإن اهتمامها هذا لا يتجاوز مواطنيها، (أدوات تدوير عجلة الإنتاج المباشرة) أمّا الناس في الأمم الأخرى، فتعمل على قهرهم واستهلاكهم والاستهانة بأرواحهم وحياتهم.

إن طغيان الليبرالية هو جزء من طغيان الحضارة الغربية، التي تدعي بجميع مكوناتها أنها الأرقى والأفضل والجديرة بالاتباع والتقليد، وهي حضارة تجثم على صدر الإنسانية بالقوة والطغيان وتسخر البشرية جمعاء في سبيل رفاهها، مستنسخة عصر العبودية وتفوق الإنسان الأبيض بطرق وأساليب جديدة تدعي الحداثة واحترام الإنسان وحقوقه، بينما لا تستطيع في الحقيقة أن تتفهم الاختلافات والتباينات بين البشر، وتسعى جاهدة لجعل الناس كلهم نسخاً تشبهها، وذلك من خلال مختلف منتجاتها في ميدان الثقافة والاجتماع والتواصل والإعلام والاقتصاد عبر فرض العولمة وتقديم نموذجها للإنسان وتسخيف كلِّ ما عداه، إذا لم تمنّ تلك الحضارة بتقبله.

وإن هذه الحضارة القائمة على الطغيان والمادية وقيم الربح والمنفعة لا تلبث أن تصطدم بنفسها وتدمر ذاتها مهما بلغت التفاهمات بين أجزائها، وقد حدث هذا في حربين عالميتين، ويحدث بين فترة وأخرى عندما يصل التنافس أوجه بين دولتين قويتين كلٌ منهما تريد أن تتفوق على الأخرى وتحقق مصالح أكبر وربحاً أعظم، ولا تقيم هذه الحضارة للإنسان وزناً بل تجعل من كل رفاهه المزعوم وقوداً لتلك الحرب المجنونة وتقتل الملايين في سبيل بضعة آلاف يسيطرون على العالم وقيم الحرية الجديدة المدعاة فيه، ولم يكن هذا بعيداً بالأمس عندما كادت الولايات المتحدة تصطدم مع الصين، وليس بعيداً اليوم في احتمال حرب روسية على أوكرانيا، وما يمكن أن تخلّفه من حرب عالمية على المصالح في المنطقة، فالمصلحة هي القيمة الحاكمة في عالم اليوم، وكل ادعاء للجوانب الإنسانية في النظريات الغربية هو هراء يتم تداوله لتجميل قشور هذه الحضارة الخاوية.

 

 

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط