الفرق بين التنظير العلمي والشعبي

علي سندة

0 2٬672

علي سندة

ما أكثر التنظير والمنظرين في المجالات كافة! في الفن والموسيقا والأدب والسياسية والحِرف…إلخ، التنظير هو البحث النظري للوصول إلى فكرة محددة في مجال ما، ومنه خرجت النظرية التي تخضع للتجريب لإثبات صحة الأفكار فيها وعدمها، لكن هذا المعنى العلمي للتنظير لسنا بصدد البحث فيه كون مجاله العلوم العلمية والأدبية، إنما مرادنا من التنظير خروجه عن المعنى السابق إلى معنى النقد، فقد درج الكثير من الناس إلى النقد وعُرفوا شعبيًا وثقافيًا بالمنظرين، فما أكثر سماعنا لجملة: “كفاك تنظير علينا تفضل وأرنا ما عندك” والمثل الشعبي: “بدل ما تقول للقطة بست كسور إيدها”. وهذا حرفيًا التنظير الشعبي.

اقرأ أيضاً: أمنيات موسكو في العمق العربي

ومن المفهوم الأخير للتنظير يُقسم إلى أربعة أقسام نسبةً إلى أحوال المنظِّرين فيه، الأول: من يُنظّر وينقد وهو لا يستطيع فعل أفضل ممَّا يراه ونظَّر فيه، أي يمارس شهوة حكي لا أكثر، وهذا النوع لا يندرج ضمن من رأى منكم منكرًا فليغيره بلسانه؛ كونه لا يملك الأدوات، إنما يخوض مع الخائضين والغوغاء، ولأن قاعدة تغيير المنكر باللسان تتطلب المعرفة والوعي لتحقيق غاية التوجيه والتغيير، وإلا فالتغيير يصبح مشوهًا.

والثاني: استطاعة المُنظِّر أن يفعل شيئًا أفضل ممَّا رآه ونقده، بل ربما يستطيع إنقاذ الأمر الذي ينقده من الزوال أو الاندثار، لكنه في الوقت نفسه لا نية لديه! فقط مكتفٍ بالتنظير دون العمل، وهذا النوع يعدُّ مكلفًا ومسؤولًا لأجل الإعمار في الأرض.

لمتابعة الأخبار السياسية والمنوعة اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

والثالث: استطاعة المُنظِّر أن يصنع شيئًا أفضل ممَّا رآها كونه أهل وصاحب علم ومعرفة فيما ينقده، وهذا النوع يريد فعل شيء لإنقاذ ما ينظِّر وينقد فيه، لكنه في الوقت نفسه متقوقع حول ذاته ولا يخرج من دائرته ويبكي الحال الذي وصل إليه ولا يقول للمعنيين إنني هنا لأجل ذلك الشيء، وتراه مبتعدًا عن الميدان، وهذا النوع هو المهم في كل هذا المقال، إذ تنبع أهميته من خلال المثال التالي:

كثيرًا ما نرى في ميدان الفن والتراث لهفة لدى الغيورين عليه، وهؤلاء ثمة قسم منهم يندرجون ضمن التقسيم الثالث، لكن تراهم مبتعدون عن الساحات رغم إمكانيتهم الوصول إليها وتصحيح المسار، ونظرًا لفعلهم هذا وعدم كفاحهم لأجل ما حفظوه من تراث نقلًا عن أساتذة وكبار الفن الذي يتقنونه، صار فنهم الذي يحبونه مزيفًا، وهذا العزوف يجرُّ معه تشويه هوية ثقافية لمدينة أو بلد كامل، لتغير ذائقة الناس تجاه هذا الفن على مرّ الزمن، إذ يصير تصدير الفن المشوه هو الأصل المعروف، ويتفاقم الأمر أكثر بموت أرباب الفن الحقيقي الذين اكتفوا بالتنظير مع امتلاكهم العلم، فلا تصدوا للتشويه ولا دربوا أجيالًا تكمل المسيرة بعدهم، فراحوا واندثر الأصل معهم، وتغيرت الهوية.

كان حريُّ بهم أن يتمثلوا قوله تعالى في سورة يوسف كما فعل سيدنا يوسف مع عزيز مصر حين قال جلا وعلا على لسانه: “قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)” كان عليهم أن يعرفوا قدر نفسهم ولا يبتعدوا بداعي لا يوجد مجال، ويوجد واسطات، ولا أريد الشهرة، وأخجل من الظهور،.. إلخ من الحجج التي لم تعد تجدِ نفعًا بموت فن أو موروث ثقافي أو مهنة أو أي شيء يمت إلى الإنسان وتاريخه بصلة.

بقي نوع رابع وهو المنظِّر الذي يتصدى للخطأ ويقول ويعمل ويضحي بكل غالٍ عليه في سبيل تحقيق ما يراه صحيحًا، وهذا النوع صار نادرًا في زمن الخوف من الكلمة، فما أكثر التنظير والمنظِّرين وسيادة الخطأ على أنه صواب!!!

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط