الوعي السياسي الشعبي ومسارات الخطاب السياسي خلال الثورة

أحمد وديع العبسي

0 1٬224

مقدمة

“السياسةُ علم”، والممارسة السياسيّة هي أخذُ هذا العلم، والخبرةُ بتطبيقاته، من أجل الاستفادة منه في إدارة أو فهمِ الواقعِ السياسي، أو على الأقل معرفة كيفيّة تلقّي الخطاب السياسي وفهم أبعاده بشكلٍ أكثر منطقيّة، فلا يجعلنا نتوقّع منه أكثر مما يمكنه تحقيقه، مهما كان هذا الخطاب متعالياً أو مثالياً أو مفاجئاً من حيث تخلّيه عن الكثير من الثوابتِ التي من المفترض أن يدافع عنها، أو تبنيه لأهداف صعبة المنال، وذات لغة حاسمة.

لقد عانى الخطابُ التي تبنّته الثورةُ منذ بدئها من اضطراباتٍ عديدة، سواء من حيث أطراف هذا الخطاب كمعارضةٍ وحلفاء للثورة أو قادة محلّيين أو ميدانيين، أو من خلال التلقّي الشعبي الواعي لهذا الخطاب وبناء الآمالِ عليه، والخيبات المتلاحقة التي مُني بها الشعب السوري جراء الانثناءاتِ الحادة وغير المتوقعة في المواقف السياسية، والتي كانت تختلف عن بداياتِ الثورة، مما أجبر الزخم الشعبي على تبني خطاب مواجهةٍ يلعن كل شيءٍ تقريباً، فما يمكن تحقيقه مختلفٌ تماماً عمَّا بُذلت الدِّماء لأجله، أو هكذا تبدو الصورة على الأقل.

سنحاول الوقوفَ على طبيعة هذا الخطاب من مختلف الجهاتِ ومحركاته الرئيسية، وما سنركِّز اهتمامنا عليه هو الوعي الشعبي لهذا الخطاب وتفاعله معه، وكيف أثر هذا الوعي في كثيرٍ من المواقف سلباً أو إيجاباً منذ التحرك السياسي الأبرز للمعارضة في بدايات 2012 عند تشكيل الائتلاف، واقتراب الثورة من نصرها ثم ما حدث بعد ذلك، وسنتطرّق بشيءٍ من الاهتمام للخطاب والموقف السياسي التركي، لأنَّ الدور التركي في الثورة لا يمكن إهماله، وبسرعةٍ سنمرّ على أبرز المواقفِ العربية (قطر والسعودية) على وجه الخصوص، ثم الموقف المصري وتغيّراته، وكذلك الموقف الفلسطيني، والقراءة المتأنية للمشهد السوري، وأبرز المواقف العالمية، وخاصة النهج السياسي الأمريكي على كثرة تبدّله، والموقف الروسي. وسنقف أيضاً عند مواقفِ المليشيات الانفصالية والقوى الراديكالية.

لن نحاول أبداً الغوص في تفاصيلِ المعلوماتِ الحصرية، وإنما سنحاول القيام بقراءاتٍ سريعةٍ وفق ما أُتيح للجميع إعلامياً، وذلك لنتجنّب بناء الآراء بمعزلٍ عن الناس.

تشكّل الوعي السياسي الشعبي

إنَّ الوعي الشعبي هو وعي غير حصيف، ليست هناك طريقة وحيدة لتشكيله أو صناعته، لكن غالبا ما تلعب وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الدور الأبرز في ذلك، تليها التغيّرات الكبيرة والصراعات المحتدمة التي تجعل بعض المقولات تطفو على السطح كمبادئ لا يمكن النيل منها أو تغييرها.

لا يخضع الوعي الشعبي للمنطق ولا للغة المصلحة (مع عدم تجاهل أنّ هذه الأمور من الممكن أن تكون محركات لهذا الوعي)، إنَّه وعي طفولي انفعالي فطري، يتميز بكثير من البراءة والعفوية والصدق، دون أن يعيَ محركاته الرئيسية أو من يوجهه ويستفيد منه، ويلعب على لغة المشاعر التي لا تتقن الشعوب سواها، أو على الأقل هي اللغة التي تحرك الشعوب بالدرجة الأولى.

الوعي الشعبي يؤثر بقوة في الوعي الفردي سواء المثقف منه أو العامي، ويفعل فعله في حمل الأفراد على تبني القضايا التي تكون ذات زخم جماهيري ما، مهما كانت هذه القضية صحيحة أو خاطئة أو مغرقة في المثالية صعبة التحقق، هذه المثالية التي عادة ما تكون بالنسبة إلى التيار الشعبي أمراً من المفترض أن يكون سهلاً، وأن يتحلى به كلُّ أولئك الناس الذين يتصدون لقيادة المصالح العامة، وإلا فإنَّهم لا يستحقون أماكنهم، ويُتهمون بالتخاذل والخيانة.

في النهاية الوعي الشعبي يشكله أفراد تصنعهم الآلة الإعلامية أو المواقف التي تدعمها هذه الآلة وينجر الناس خلفهم دون دراية غالباً، ثمّ يبدأ تشكل حلقات داعمة لمواقف معينة، سرعان ما تتسع لتُشكل تيارات شعبية، تبدأ بترديد مقولات ذات صيغة مثالية تجذب البسطاء من كل مكان، ويصبح التخلي عنها أمراً صعباً، ويستمر العزف حول هذه المقولات بشراسة، لأنَّها صارت تشكل جماهيرية أصحابها، وجزءًا كبيراً من كينونة وجودهم، والتخلي عنها يعني التخلي عن هوية كاملة لهذا التيار أو ذاك والسباحة في الفراغ، أو رحلة جديدة (ليست مضمونة النجاح) للوصول إلى الجماهيرية الواعية.

إنَّ كلَّ ذلك يعتمل في اللاوعي الجمعي والفردي في آنٍ معاً، ويصبح تقارب الشخصيات والتيارات ذات الصبغة الجماهيرية الساذجة أو البسيطة (التي كسبت جماهريتها عبر ترديد المثل والتجمهر حولها دون وعي لعدم إمكانية تحققها)، أمراً لا بدَّ منه، هذا التقارب يحمي هذه الشخصيات أو التيارات، ويجعلها تدافع عن بعضها وتؤكد مقولاتها بين الحين والآخر، إنَّه أمرٌ شديدُ التعقيد وشديدُ البساطة في الوقت نفسه.

جزءٌ كبير من مثقفي هذا التيار تبدأ ثقافتهم بالضمور لصالح الانصياع للمقولات الشعبويّة الرائجة التي تحفظ لهم جماهيريتهم وقوة تأثيرهم، وهذا الضمور حقيقي، وليس مفتعلاً غالباً، إذ أن المثقف يجد نفسه مضطرًا للإيمان الواعي بالمقولات الشعبوية ليتصالح مع ضميره وهو يدافع عنها، وبنفس الوقت يسهل عليه الانسلاخ منها عندما تسقط، عندها تطفو كلمة (كنت أعرف ذلك ولكن لا مفر منه) كمبرر تراجيدي لمرحلة معينة.

هذا كله بغض النظر عمّا يحدث في كثير من الأحيان عندما تدخل معظم هذه الشخصيات تيارات مؤدلجة وتلعب دورها لصالح هذه التيارات ببراعة واتقان، وينتقل الأمر من جهود فردية بسيطة إلى العمل الواعي والمخطط له من أجل صناعة محركات حقيقة لتوجيه الوعي الشعبي نحو قضايا معينة، وحشد الرأي العام حولها.

 

حوامل الوعي الشعبي

عندما يتشكل الوعي السياسي الشعبي، تنطلق عدّة حوامل لرفعه وتوجيهه، يأتي في مقدمتها اللعب على وتري العاطفة والدين.

إنَّ أفضل السنفونيات وأكثرها تأثيراً على الإطلاق هي تلك التي يجيد مؤلفوها الدندنة بتركيز مرتفع على هذين الوترين وبتناغم شديد، فبينما تلعب الأحداث المأساوية والدموع وقصص البطولة والمثالية المفرطة الدور الأبرز في إشعال صوت الجماهير، يلعب الدينُ الدورَ الذي يشكل حامل الاستمرارية لهذا الصوت، فكلّ تلك التراجيديا والمأساة والصبر والتحمل والدموع والقصص المؤثرة، لها غايات تمتدُّ لما بعد الحياة، .. لذلك الشيء النبيل الذي نعيش من أجله.

إنَّ أفضل السياسيين في ذاكرة الشعوب، هم أولئك الذين أجادوا الأمرين معاً، وقلة منهم من ركَّز على أمر واحد فقط واستطاع النجاح.

 لا بدَّ من سلب الشعوب عاطفياً ودينياً في المقام الأول، ومن ثمَّ يمكن العمل على الاقتصاد والازدهار كممكنات إضافية، أو على القوة الخشنة كمرسخ للخطاب السياسي بقوة الخوف، عندما تُشرخ الأسطوانة المعتادة، وتفقد السنفونية ألق تأثيرها لصالح سنفونيات أخرى أجادت اللعب على هذين الوترين بصورة أكثر حداثية ومواربة خادعة.

من المهم جداً معرفةُ أنَّ أي سياسي سيستخدم هذين الوترين لمصالحه بشكل فجٍّ مهما كان صادقاً، وأنَّ استخدامهما غيرُ متعين بطبيعة الإيمان بهما حقيقة أو لا، لأنَّه كسياسي يدرك أنَّ عليه فعل ذلك، فأعداؤه سيفعلون، والشعوب لن تفهم إلا هذه اللغة، لأنَّها بطبيعتها تحبُّ الاستماع لها مهما تطورت. وليس شرطاً أن يُتهم هذا السياسي بصدقه تجاه هذه الأمور، فقد أصبح من البديهيات استخدامها، والابتعاد عنها أمرٌ خاطئ، والتفاعل معها بالطريقة نفسها يبدو أنَّه سيبقى مستمراً.

إنَّ الغوغاء هي قوة الشعوب الحقيقية وليست الطبقة المثقفة، وقوة المثقفين تأتي بمدى مقدرتهم على التحكم بقوة الغوغاء الهائلة

وهنا لا بدَّ من ملاحظة أنَّ الغوغاء ليست لفظاً مشيناً، بل هي اللفظ الذي يعبر عن التحرك اللاوعي لدى الجماهير تجاه القضايا التي تؤمن بها بانجراف هائل، والتي لا يوقفها عادة إلا معزوفات مشابهة ترافقها القوة المفرطة.

الجماهير لا تواجه القوة المفرطة، هذه حقيقة يجب أن يعرفها الثائرون في كل مكان، إنَّها في أفضل حالاتها تكتفي بالصمود في مواجهة هذه القوة كنوع من الدعم للنخبة التي يؤمنون بها كأشخاص أو أفكار، والنخبة هنا هم من يتصدون للمواجهة، وليس شرط امتيازهم بصفات نخبوية، بل قد يكونون من النوع الشعبوي الفطري الخالص.

 

خطاب السياسي

علينا أن ندرك أنَّ معظم السياسيين مدركين لدرجة كبيرة ماهية الوعي السياسي الشعبي وطرق تشكله وحوامله وموجهاته التي تحدثنا عنها فيما سبق، بل وإنَّ أكثرهم مدعوم باختصاصيين ومراكز دراسات تحلل لهم هذا الوعي، لتعطيهم أدقَّ النتائج الممكنة التي يُبنى على أساسها الخطاب.

الحقيقة الأكيدة في هذا الصدد أنَّ السياسي يحقق مصلحة، ولا يستجيب لنداء الجماهير فقط. قد يكون هذا السياسي يهدف حقاً إلى خدمة الجماهير، وإلى تحقيق تطلعاتها، وإلى بناء دولته بالشكل الأمثل الذي يحلم به المواطنون في آنٍ واحدٍ معاً، لكنَّه يدرك الصراعات التي تحكم المشهد حوله، والمنافسات التي يقوم بها خصومه بكلِّ الطرق المشروعة وغير المشروعة، وكيفية تجيير الجماهير ضده، لذلك لا يجد بُدًّا من خوض اللعبة نفسها سواء كان يحمل هدفاً نبيلاً أو خسيساً، فالأمران يحتاجان خطاباً متقناً ودعماً جماهيرياً كبيراً، والأعمال هي من تحكم على مدى مصداقية السياسي من كذبه، هذه الأعمال التي تتغير وفقاً لتغير هدف الجهة السياسية التي يمثلها، أو أهواء الناخبين الذين أوصلوه إلى سدّة المسؤولية. أو رضى القوة الخشنة ومصالحها التي تحميه وتقف خلفه، وتضمن له بقاءه، أو كل تلك الأمور معاً بنسب مختلفة، حسب طبيعة الدولة وأنظمتها الحاكمة، وتاريخها السياسي.

السياسي يخاطب بالدرجة الأولى الناخب، لأنَّه يريد ضمان صوته بشكل دائم، فيتحمس حيث يرى الحماس، وربَّما يطلق المثاليات الجوفاء، ويتراجع حيث يرى الناخب قد تراجع، ودائما تخبره استطلاعات الرأي ومراكز الدراسات بحال الناخبين.

والسياسي كأيِّ شخص صاحب مصلحة يحشد باتجاه التوقعات حيناً، والحقائق حيناً آخر، والمشاريع التي يهدف لها في أجندته حيناً ثالثاً، ويستخدم كلَّ الأساليب لإقناع الشعب بأجندته ، فأي تيار سياسي يحاول أن يطبع المجتمع بطابعه، وهو حقٌ مشروعٌ لمن نجح في صناديق الاقتراع من أجل ضمان نجاح دائم، وسيواجه خصوماً لا يفترون، لذلك عليه ألَّا يستهين بشيء مقابل النجاحات العملية فقط.

والشعب في طبيعته ميال لمن يراعيه، يراعي ظروفه واحتياجاته، ولا يحبُّ من يدخله في مغامرات غير محسوبة، مهما كان الحماس الجماهيري لها بدايةً، فسرعان ما يفتر عندما تبدأ المخاطر بالظهور، ويبدأ البحث عن الحل هو الهاجس لدى الجميع، ولا تستطيع أي نخبة الوصول إلى نصر بعيداً عن القاعدة الجماهيرية.

طبعاً الخطاب السياسي له وجه آخر هو (خطاب الخوف)، حيث يُصدق الجمهور جميع كذبات السياسي اتقاءً لبطشه، ويأمل أن يكون صادقاً، ويرى في صدقه لمرات قليلة مكرمةً لا يجب أن تضيع، فالمصلحة والأمان، والخوف من عدم الاستقرار هاجس مقلق، يجعل المواطن يتنازل عن الكثير في سبيل المتاح.

والثورة تولد في ظروف كهذه، لكن إن لم تمتلك مشروعاً أفضل من النظام القائم، فسرعان ما سيبهت خطابها في قلوب الجماهير، وسيسيطر الخوف عليهم، وسيغدو المجهول هو البعبع المرعب الذي سيتحد الجميع للخلاص منه بأي طريقة تؤمن الحد الأدنى من الاستقرار والأمان، ولن يتمتع بالحماس البطولي سوى النخبة الثورية التي ستخوض صراعاً غير مضمون النتائج على الإطلاق إذا لم يُدعم بتحالفات مصلحية قوية حول ساحة المواجهة.

 

سرديات التلقي

ظهر أول خطاب سياسي سوري بعد الثورة بوضوح عند تشكيل المجلس الوطني السوري آواخر 2011، تبنى هذا الخطاب لغة الثوار نفسها، بل زاود عليها أحياناً في تخيّل الجنة الموعودة، دون أي وعي صراحة لطبيعة الدولة السورية والشعب السوري، والأسس البسيطة التي قامت عليها الثورة، ومن أجل كسب تمثيل حقيقي للمجلس الوطني عند الشعب، راح يردد بزخم مطالب الشارع وثوابته، رغم ما ظهر في هذا الخطاب من انفصال عن الواقع، كأي خطاب ثوري في بداياته الحماسية البكر.

طبعاً لم يملك المجلس الوطني وهو الذي شُكّل خارج سوريا خيار آخر في خطابه ليستطيع اقناع الناس بضرورة البدء بعمل سياسي، وأن هؤلاء السياسيين يمثلونكم، ولا بد من بناء مصالح مشتركة بين الميدان والسياسيين من أجل الوصول إلى نتائج حقيقية للثورة.

عندما أراد المجلس الوطني الانتقال من حيز الخطاب إلى حيز العمل السياسي، بدأت اللغة بالتغير وفق الممكن والمتاح، والذي كان كبيراً يومها، ولكن فوضى العواطف في البداية، والألق الكبير للربيع العربي وللثورة السورية بشكل خاص بعد مشاهد الانتصارات الحاسمة، جعلت تسريبات بعض المواقف لبعض أعضاء المجلس تخلق فجوة كبيرة بين الجماهير والسياسيين، وبدأت لغة التخوين تنطلق من الأرض، شجعها النظام والقوى الراديكالية، والخصومات السياسية بين أعضاء المجلس أنفسهم، والتصور الفطري لصفاء الثورة وصفاء النصر المرتجى.

لن أطيل هنا، فالمجلس الوطني لم يضطلع بأي عمل حقيقي، إذ أن التقدم على الأرض كان أسرع من لغة السياسة المتوفرة حينها، وظهرت الانقسامات السياسية التي تحترف لغة التعالي والمزاودة، إلى حين تمت لملمة هذه الفوضى بعد سنة بتشكيل الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة.

لم يختلف الخطاب السياسي للائتلاف عن المجلس الوطني سوى بأنه كان أكثر مزاودة من قبل تياراته المختلفة، واختفى صوت العقل فيه تقريباً، إلا من بعض المبادرات الجادة التي طرحت رؤيا واقعية للحل كمبادرة معاذ الخطيب على سبيل المثال في 2013، تميز الخطاب السياسي للائتلاف بكونه خطاباً شعبويّاً غير واعي أصلاً، وأخذ يردد كالببغاء في تلك الفترة كل ما يقال على الأرض، ويتغاضى عن الانقسامات الكبيرة الحاصلة، ويدعي أن الساحة السورية وحدة صلبة غير متفتتة، ومع تعاظم الانتصارات في 2013، صارت لغة الواقع والعقل مغيبة سواء من خلال السياسيين أو من خلال إمكانية تلقي جمهور الثورة، وتصدرت هذه اللغة المواقف التطبيقية في العمل السياسي، وأصبح تخيل الجنة الموعودة أكبر من ذي قبل، ونجحنا كسوريين جميعاً في رفض الحلول الممكنة، والانسياق نحو الجحيم، عبر تخيل البطولات، وعدم إدراك موازين القوى ومصالح الدول الكبرى، وظننا بشيء يشبه اليقين أننا سنستطيع هزيمة كل شيء لوحدنا أو بدعم إقليمي بسيط أو دعم قطبي تجاه قطب آخر.

كان مشهداً طوباوياً كبيراً، لعبت فيه العاطفة والراديكالية الدينية غير الواعية (التي استطاعت سحب حماس الجماهير المنخنقة دينياً) دوراً أساسياً، مع عدم تجاهل وجود خطة محكمة قام فيها النظام وحلفائه في سبيل ذلك.

وقد تكرر هذا المشهد مرات عديدة طيلة سنوات الثورة، كانت دائماً تنتصر فيها لغة العاطفة والدين على لغة المصلحة والحل المحتمل، ومع كل نصر صغير كانت لغة التفاوض تخفت، وتتعالى لغة النصر والحسم الكامل، وبأننا قادرون على هزيمة النظام ومن خلفه روسيا وإيران ومرتزقة العالم، بل وسنعيد رسم خريطة المنطقة بما يناسب الانتصارات التي حققناها.

كانت المثاليات والبطولات والدماء تفعل فعلها إلى جانب (المدبّر، والمخطَّط له) من أجل الانسياق نحو جحيم من نوع خاص، انخفضت فيه سقف الآمال والتوقعات كثيراً، ولكنها في كل مرة ترتفع إلى اقصى حلم مثالي ممكن، لينخفض السقف تلقائياً في المرة التي تليها، وتزداد الخسارات والدماء، ويزداد معها الاستقطاب تجاه الثأر والأمانة وطلب المستحيل، في مشهد فطري يسهُل التحكم به خارجياً وداخلياً (من قبل أصحاب الأهواء والخونة)، مع بقاء حالة الانفصال بين السياسي والميدان مرسخة جداً، وحالة التخوين لكل شيء باتساع حتى وصلت للحلفاء و الأصدقاء، الذين لم يعد باستطاعتهم المضي نحو المجهول، واستكانوا للغة الحل بدل النصر.

لا أريد الإطالة هنا فالمرور السريع لرصد تلقي الوعي الشعبي للخطاب السياسي الذي أحاط بالثورة هو هدف هذه المقاربة أكثر من كونها بحث أو دراسة تفصيلية.

بشيء من المباشرة طالت لغة التخوين الشعبي بشكل عارم حلفاء الثورة من الباقين معها أو المتخلّين عنها، بالأخص الخطوط الحمراء لتركيا ورئيسها، واتفاقية المدن الأربعة بالنسبة لقطر، الدولتين الأكثر انحيازاً للثورة.

تميز الخطاب التركي في بداية الثورة بمجاراة للخطاب الثوري ومثاليّاته، والتوعد بدعم الثورة بكل الطرق الممكنة، والتعالي في طرح هذه الطرق لغاية التلويح المبكر بتدخل عسكري للوقوف إلى جانب الثوار، وإعلان تسليحهم وتقديم المعونة لهم.

لاشك أن الموقف التركي كان وقتها موقف عاطفي دولي، فهو ينسجم مع الخطاب الدولي، واتفاق العالم وأصدقاء الشعب السوري بشكل خاص (120 دولة) على ضرورة اسقاط نظام الأسد مهما كلف الأمر، والتدخل العسكري الدولي كان متاحاً كما جرى في ليبيا، وكان أيضاً منسجم مع قيم الحزب الحاكم في تركيا، وأرضيته الجماهيرية، ولكن هذا الموقف تميز بالتراجع دائماً إلى حدود الممكن، ولم يدخل أي مغامرة كان يتحدث عنها هذا الخطاب.

علينا أن نعي أن تركيا هي دولة جارة، وأن أي انجرار للمخاطر سيؤثر عليها بشكل كبير، خاصة وهي محاطة بكيانات معادية، وأن أي مجازفة قد تودي بجميع ما حققه الحزب الحاكم إلى التهلكة، غير ذلك فتركيا دولة لا تتحرك مطلقاً خارج الإرادة الدولية، وتحاول تأمين مصالحها بأقل الخسائر، وهو حق مشروع لكل دولة، وبالنسبة لها الاستقرار على حدودها أهم من الوفاء بمتطلبات خطاب أصبح يؤرق الناخب التركي، ويقض مضجعه، ويقف في طريق رزقه. كما أنَ أوراق المنافسين على صوت هذا الناخب بدأت تصبح أكثر فاعلية، وتهدد بقاء الحزب في الحكم إذا ما دخل أي مغامرة غير محسوبة.

الاستجابة كانت دائماً للناخبين وليس للمهاجرين، وليس صواباً إنقاذ الآخرين على حساب تورط تركيا كما يرى الأتراك، والتخلي عن الخطوط الحمراء سهل جداً من أجل الحفاظ على الدولة في مواجهة أعدائها، ومع كل ذلك ما يزال الموقف التركي هو الأقوى في الانحياز للثورة، وما تحملته تركيا في هذا الصدد إيفاءاً لقيمها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً كان من السهل جداً تخطيه لو تفاهمت تركيا مع نظام الأسد على حل سريع، خاصة في المسألة الكردية.

لا يرى الأتراك ابداً أن التحالف مع روسيا وإيران يضر الثورة السورية، لأنهم يتجهون للحل، وليس للنصر، فالنصر قيمة غير متحققة مع تشرذم القوى السورية وارتهانها لمشاريع عديدة داخلية وخارجية أحدها ربما المشروع التركي، الذي من المفترض كما يعتقد الأتراك أن يكون الأهم بالنسبة للسوريين، لأنه يرتبط بالمصير المشترك، ولكن هذا لا يبدوا على المتحكمين بالقرار السوري، ولا على العسكريين الذين يتلقون دعماً من مختلف الدول على الشريط الحدودي التركي، وبعض هذه الدول والكيانات أعداء معلنيين للدولة التركية.

فعدم أبصار جميع الحقائق المتعلقة بتباينات الخطاب والموقف التركي سيؤدي بنا إلى تخوين هذا الحليف فقط لأنه لا يعمل لصالحنا كبيدق في المعركة السورية!!! كما لعب التجييش العاطفي الساخر اللاعاقل دوراً كبيراً في خلق فجوة بين تركيا والثوار ازدادت مع حوادث القتل المتكرر على الحدود.

أما قطر فقد كان موقفها على قدر قدراتها، لم يتوقع أحد منها الكثير، ولم يبرز لها دور رئيسي سوى في اتفاقية المدن الأربعة، التي صدّرها الخطاب الشعبي كخيانة عظمى، وبيع من لا يملك لمن يقتل من أجل مصالحه الخاصة، المهم جداً هنا وبعيداً عن الوقوع في فخ التبرير، أن العملية السياسية لا تحدث من قبل طرف واحد، وأن السوريين على الأرض كانوا سيضطرون لهذا التخلي في وقت ما، وأن صمت الشركاء في الداخل وارتهانهم لمشاريعهم الخاصة أيضاً أسهم بشكل كبير في إتمام هذه الصفقة، لا ننكر أن قطر استطاعت أن تكون  جزءاً من هذه الصفقة لتحقيق مصلحة خاصة، ولكن ذلك كان مقابل المال الذي دفعته، وليس مقابل الأرض الذي قبض ثمنها أطراف أخرى من جهتي الصراع.

السعودية هي الأخرى تبنت خطاباً داعماً للثورة له أسبابه في البداية، وهو دعم الثورات للسيطرة على تمددها، والحفاظ عنها بعيداً عن المملكة، وعن النجاحات الكبرى التي تجعلها مغرية لكل الشعوب، ولكن هذا الموقف تغيّر جذرياً عندما بدأ هذا التمدد يطغى على محاولة حصره في نطق ضيقة.

التعامل الشعبي مع الخطاب السعودي لم يتميز بالثقة أبداً، ولا بحسن النية، ولا بمحاولة خلق المصالح المشتركة من أجل نصر محتمل للثورة، بل تعامل معه كممول فقط، وتبعه في ذلك عدد من السياسيين والعسكريين، الذين حاولوا فقط التعامل بانتهازية مع المملكة، والتي اضطرت للضغط بشكل كبير لتأمين قيادتها للملف السوري كما تراها هي. وتقليص نفوذ الأخوان في سوريا بعد القضاء عليهم في مصر.

مصر كانت قد تبنت خطابين، أحدهما كان متماهياً مع الثورة أيام حكم الرئيس محمد مرسي، ولا شك في أن وجود رفقاء المنهج على الجانب السوري سهل هذا التماهي في طموح كامل لسيطرة الأخوان على قيادات دول الربيع العربي. ثم ما لبثت حكومة الانقلاب ان تبنت موقفاً معاديا، كان أقرب للتوجه الروسي في المنطقة، والذي يتمثل في حل المشكلة السورية بعد إخماد الثورة. لاجعل الثورة طرفاُ فيها.

إن أبرز الخطابات المحيّرة كان الخطاب الفلسطيني، ولا أنكر هنا انحيازي لما أسميه الخبرة في هذا الخطاب، وإنه كان من أكثر الخطابات وعياً في التعامل مع القضية السورية، ولم يتأثر برد الفعل الشعبي عليه كثيراً، فقد كانت المصلحة وحساسية القضية الفلسطينية أكثر تأثيراً وأهمية، وربما هو ما علينا تعلمه من أجل خطاب سياسي واعي في سوريا، ووعي شعبي لهذا الخطاب ومتطلباته.

ببساطة ودون دخول في تعقيدات تطيل السرد، فقد كان خطاب حركة فتح ومن معها خطاباً سعودياً خالصاً، واتسم بعدم الظهور كثيراً، على عكس خطاب حركة حماس، حيث برع مسؤوليها في تصدير خطابين، أحدهما رسمي حاول الحفاظ على كل التوازنات الممكنة، والعلاقات المميزة مع الدول والكيانات الداعمة للقضية الفلسطينية، بغض النظر عن موقف هذه الدول من القضية السورية، وخطاب غير رسمي قام بترويجه الصف الثاني والثالث من قادة الحركة، يشرح بوضوح وقوف حماس مع حقوق الشعب السوري وثورته، ودعمها بكل شيء ممكن، مع شرحه ضرورات تفهم الموقف الرسمي المختلف بسبب حساسية ومصلحة القضية الفلسطينية، ودَعم صدقية هذا الموقف بعض الإشارات المتعمدة من قادة الحركة تجاه ثورة سوريا، زاد من حدتها إعلان القطيعة من النظام السوري، دون إعلان نفس القطيعة مع حلفائه، الذين تعتبرهم حماس من أقوى داعميها في المنطقة. وقد اضطرت حماس لتثبيت هذه العلاقة وتمييزها عن القطيعة مع نظام سوريا إلى كثير من التحالفات الجديدة مع هذه القوى بما يصب في مصلحة فلسطين، ليكون شكل إدارة هذه العلاقة هي الأعقد والأكثر إثارة للجدل، والتي تتلخص في ضرورة التقليل من أعدائك مع عدم التخلي عن الأصدقاء، ووضع مصلحة الوطن في إطار الممكن لكل مرحلة على رأس الأولويات، وعدم الانجرار وراء العاطفة والخطاب الشعبوي.

المشهد الشعبي في سوريا تجاه مختلف هذه الخطابات والمواقف كان انفعالياً جداً، يُسرع إلى التخوين، وخلق العداءات، وعدم تقدير المصلحة بشكل شبه مطلق.

كانت الثورة وخطابها المثالي الذي يغذّيه الشباب الثائر بدون وعي يسيطر على كل شيء، وكأن هؤلاء الثوار سيعيدون إصلاح وجه الأرض، ومرة أخرى باستغلال عاطفي ديني راديكالي كبير.

استطاع النظام تغيير الموقف الدولي بخلق داعش، التي دعمته كمسيطر على الفوضى التي لم يستطع الثوار السيطرة عليها، خاصة وأن داعش قد خرجت بحسب وجهة النظر الدولية من بين صفوف الثوار، وكان لعدم اتخاذ موقف حازم منها منذ البدايات دورًا كبيرًا في حجب الثقة الدولية عن معظم فصائل الثورة، والتخلي عنها كشريك محتمل وفاعل في مرحلة ما بعد النظام، ما جعل التيار الدولي يتمهل في دعم إسقاط النظام، لغاية إيجاد بديل حقيقي أو يضطر لإعادة تعويم النظام مرة أخرى كما يبدو أنه يجري الآن …

تميزت سياسية أوباما تجاه سوريا بالروية، ومحاولة تحقيق المصالح عبر الحلفاء بدلاً من التدخل المباشر، والاكتفاء بإدارة الملف السوري عالمياً، مع خطاب ذو وتيرة متعالية، كان حاسماً تجاه ضرورة إسقاط النظام ورحيل الأسد في مختلف أجزائه، تخلله أحياناً لغة معتدلة تجاه النظام، بعد ظهور داعش، تماشياً مع مصالح الحلفاء في المنطقة خاصة روسيا، التي أبدت تعاونا كبيراً مع الولايات المتحدة في إدارة الملف السوري، يختلف عن الصراعات القديمة تجاه باقي الملفات، وإن ظهر غير ذلك للإعلام.

لعب الموقف الأمريكي دوراً كبيراً في رفع السقف عند الجماهير التي صدقت أن التدخل المشابه لما حصل في ليبيا سيكون قريباً، فلم تعد أنصاف الحلول ممكنة، خاصة وأن السياسيين انقسموا بين المتبني للموقف الأمريكي والواثق به، وبين من حاول تغليب لغة العقل وإعطاء أولوية للدور الإقليمي.

شعبياً ظهر أنصار الموقف الأمريكي كأبطال، على الأقل لأنهم تبنوا شكل المزاودات الشعبوية نفسها، وظهر انصار الموقف الثاني كخونة يريدون التصالح مع الأعداء وإيقاف الثورة، وظهرت الراديكالية الدينية كالمهدي المنتظر الذي سيعيد الخلافة أو أحد أشكالها وصارت هذه الراديكالية تلعن كل شيء سواها، واستطاعت حشد مختلف العواطف حولها، دون أن تمتلك أي مشروع حقيقي، فقط العبارات والحماس والوعود الخاوية، وكأن الحرب تدار في صحراء الربع الخالي وليس في سوريا.

أما عن روسيا فقد كانت واضحة منذ البدايات في لغة المصلحة المعلنة، ولم تحاول أبداً بتقديري أن تكون مواربة، فهي تعتبر سوريا إحدى أهم قواعدها في المنطقة.

عرضت روسيا على الثوار منذ البدايات إسقاط الأسد والوصول لحل تقطع به أيدي جميع الدول الممتدة إلى نفوذها، شريطة الحفاظ على مصالحها كاملة والاعتراف بحقوقها وحقوق الحليف الإيراني في سوريا، والاعتراف بجميع الاتفاقيات القديمة والجديدة المبرمة بين روسيا وسورية بعد الثورة.

قوبل من تعاطى مع هذا الطرح بالاتهام بالخيانة العظمى، ولم يستطع الثوار ابداً تفهم طبيعة الموقف الإقليمي، وكانت وعود الولايات المتحدة والتي يروج لها الداعمون وفي مقدمتهم السعودية تفعل فعلها في السعي للتخلص من أي هيمنة، مع عدم الفهم للسذاجة التي كانت ترضى بهيمنة أمريكية، وترفض الهيمنة الروسية!! لأنها كانت داعمة للنظام، رغم أن الخسائر هي نفسها، رافق ذلك تعالي الخطاب الديني الراديكالي وتصويره للمعركة بأنها الحسم بين الحق والباطل، وأن الثوار المؤمنون سينتصرون على الجميع لتكون لهم الدولة الموعودة.

انتقلت روسيا إثر ذلك إلى دعم هستيري للنظام غايته إجبار الثوار على أي حل ممكن يحفظ جميع مصالحها كراعي أوحد لأي دولة سورية قادمة، مقابل وقف الدماء فقط، وهو ما بدأت تنتقل إليه الآن مع تركيا دون الخوض كثيراً في التفاصيل.

الميلشيات الانفصالية وجدت في هذه الفوضى فرصة لتحقق ما تحلم به من استقلال ذاتي على الأقل، فتميز خطابها بالتصالح مع الجميع، وعدم خلق أي عدائية والوقوف على الحياد مقابل أن تحفظ مصالحها، فلم تحارب النظام ولا الثوار، واحترمت التحالف مع كليهما، وكذلك تحالفت مع الطرفيين الدوليين روسيا وأمريكا، ضمن مصالح مشتركة لكل منهما، ولم يتغير هذا الموقف إلا في مرات قليلة كانت ولا زالت تحدث عندما تتضارب المصالح مع الثوار أو مع النظام، وغالباً ما يتم حل الإشكالات بعد حسم المصلحة، إلا أنه في الفترة الأخيرة بعد 2016، أصبحت العلاقة مع الثوار عدائية نوعاً ما، ولكنها ذات صبغة باردة، غير محتدمة دائماً إلا على حدود الدولة الصديقة.

 

خاتمة

إن محاولة الوقوف عند مختلف المواقف السابقة ربما تجعلنا أكثر وعياً في التفاعل مع الخطابات السياسية، وعدم تحميلها أكثر مما يمكن واقعياً، مع التسليم بأن الوعي السياسي الشعبي لا يمكن السيطرة عليه تماماً، ولا نطمح إلى ذلك، فهو سيبقى رهين لأسباب تشكله وحوامله الأساسية، التي يشكل عمادها وتري العاطفة والدين، ويغذيها باستمرار المستفيدين منه ذاتياً كأشخاص يرون كينونة وجودهم في الحفاظ عليه، وككيانات تحاول تجييره لخدمة مصالحها.

ولكن ربما محاولة فهم هذه المواقف والمصالح المتباينة في السياسة تخفف من وطأة الصدمة على الجماهير، ويبدأ القادة الشعبيين بفهم ما للخطاب السياسي وما عليه، فلا يحاولون التعالي أكثر في خطابهم، وحمل الجماهير لخيبات متلاحقة تجعلهم أكثر تقبلاً للهزيمة، وأكثر انكساراً وتبنياً لنظرية المظلومية العالمية، مما يجعل اليأس هو سيد المواقف واللامبالاة هي الممارسة فقط.

إن فهم التمايز بين الخطاب السياسي وضروراته، والممارسة السياسية القائمة على المصلحة الفعلية، ونقل هذا الفهم للجماهير بشكل دائم بهدف توعيتها، سيساهم في دفع عجلة العمل نحو الممكن دائماً، والتخلص من اليأس لصالح الأمل الذي يغذيه الجهد والاجتهاد، والوصول إلى حلول مؤقتة في سبيل تحقيق النصر، بدلاً من الغوص في مقولات الثورة والفوضى والشعارات الرنانة والمثاليات المفرطة دون تحقيق أي شيء.

هذا الكلام لا يعني ابداً التخلي عن الثوابت والمبادئ والأهداف، والاكتفاء بالممكن، ولكنه يصرّ على أن الممكن هو طريق للوصول إلى الغايات العظيمة، طريق لا يتم التخلي عنه، وبنفس الوقت لا يُكتفى به.

إن بناء التحالفات والحفاظ عليها، والدفاع عن مصالح الحلفاء هو ما يجعل مصالحك في أمان عندما تنجح في خلق التقاطعات بينها وبين مصالح الآخرين، أما أن تقرر أن تفعل كل شيء وحدك أو من زاوية مصالحك فقط فعندها ستكون الخاسر الوحيد عنما سيتم اقتسام الكعكة التي هي أرضك وقضيتك المقدسة.

المثاليات مقولات لتربية الأجيال، غايات الأزمان المتعاقبة، وليست أبداً الغايات التي يبدأ عندها الكفاح وينتهي كخطوة واحدة.

وكل الذين يرتهنون للشعارات فقط ولا ينظرون لممكناتهم الحقيقية وللظروف المحيطة بقدرتهم على العمل والانجاز مرتهنون للهزيمة المحقّقة، ولا شيء سيستطيعون فعله سوى البكاء على الأطلال، ومحاولة إيجاد مكان في سجل الخالدين كملهمين أو حمقى علينا أن نكف عن اتباعهم.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط