بقلم المحامي: عبدو عبد الغفور
علينا بدايةً أن نعترف بأن أغلب الأقلام تخشى التطرّق لهذا الموضوع نظراً لحساسيته المجتمعية، سيّما في بيئتنا الشرقيّة المحافِظة، ولكن تصاعد وتيرة هذا النوع من الجرائم وارتفاع نسبة ارتكابها يرتّبان علينا واجباً دينياً قانونياً وأخلاقياً توعوياً يدفعنا كحقوقيين للتصدّي الموضوعي والعقلاني لهذا النوع من الجرائم رغم حساسية الخوض فيه.
أولاً: جرائم الشرف بالمفهوم القانوني العام:
هي جريمة قتل يرتكبها في الغالب أحد الأعضاء الذكور في أسرةٍ ما بحق أنثى في ذات الأسرة، بحيثُ يقدِم الجاني على القتل لأسباب في الغالب الأعم تكون ظنّية تتعلق بشكوك حول ارتكاب الأنثى فعلاً مخلّاً بالأخلاق بنظر الجاني، ويكون مسوّغ ارتكاب هذه الجريمة من وجهة نظر الجاني هو الحفاظ على شرف العائلة أو ما يسمّى في مجتمعاتنا بمصطلح “غسل العار”.
ثانياً: موقف الشريعة الإسلامية من جرائم الشرف:
حرّم الإسلام قتل النفس الإنسانية بغير حق، وجعله من أعظم الجرائم وأكبر الكبائر، قال الله عز وجل: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».
وقال الله تعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».
كل هذه الأصول اليقينية تعني أنه لو ثبتت جريمة الزنا على غير المحصن -ذكراً أو أنثى- فلا يُحَدُّ بالقتل باتفاق الفقهاء، وكل من يعتدي عليه بقتله فقد وقع في جريمة إزهاق النفس بغير وجه حق، ولم يقِم حدّاً ولا شرعاً.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
أما إذا كانت تهمة الزنا موجّهة إلى المحصَّن، فالأحكام الشرعية في الإسلام تُبنَى على اليقين وغلبةِ الظن المبني على الأدلة الواضحة، ولا تبنى الأحكام على الشك والوهم.
فالزنا -على وجه الخصوص- لا يُقَام حَدّه حتى يثبت يقيناً بأحد أمرين:
الأول: البيّنة، وهي أربعة شهود يشهدون شهادة بيّنة واضحة لا لبس فيها ولا غموض تتفق في التفاصيل الدقيقة للجريمة -وهذا ما لم يحصل فيما نعلم في تاريخ الإسلام؛ لأنه شبه مستحيل- فإن لم يفعل الشهود ذلك، بأن اضطربت شهادتهم أو نقص عددهم عن الأربعة، طُبِّق عليهم حد القذف؛ لإساءتهم لسمعة المشهود عليه.
قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».
الثاني: الإقرار، وهو أن يقرَّ المتّهم على نفسه أربع مرات متفرقات أمام القاضي بفعل الزنا، وعلى القاضي في كل مرّة أن يلقّنه الرجوع عن إقراره.
الدور اللازم للقضاء الشرعي في جريمة الزنا:
طالما أننا تحدثنا عن الشهادة والإقرار؛ فإنه يلزم من ذلك أننا نتحدث عن قضاء ومحاكمة عادلة، وهذا من أهم حقوق الإنسان، فإثبات الجرائم والحدود وتنفيذها من سلطات القاضي لا الأفراد، حتى لو كانوا من أقرب الناس.
أما الشك في سلوك الشخص، أو الاشتباه به، فلا يعتبر دليلاً أو حجة على أنه قام بجريمة الزنا، بل على العكس؛ لأن الشك يفسَّر لمصلحة المتّهم، والأصل براءة الإنسان من هذه الجريمة، ولا بد من إقامة الدليل الواضح على خلاف الأصل، والبراءة هي اليقين، وهو لا يزول بالشك؛ ومعلومٌ لدى العامة أن الحدود تُدرأ بالشبهات، فقد قال عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ: «لأن أعطِّلَ الحدودَ بالشبهاتِ، أحبُّ إليَّ مِنْ أن أُقيمَها بالشبهاتِ».
إن ما يُسمّى بـ«جرائم الشرف» واحدة من أبشع الجرائم التي تنتشر في المجتمعات اليوم، حيث يظنّ القاتل أنه من خلالها يُطهّر عن نفسه العار والمذمّة، ولا يدري أنه يرتكب ما هو أخطر وأكبر، وهو سفك الدم الحرام، الذي يزيد فساده على فساد، وأنه بذلك يستوجب على نفسه القصاص في قول كثير من الفقهاء؛ لاعتدائه على نفسٍ معصومة لم تقم البيّنة قضاءً على زوال عصمتها، ولأن القاتل تدخّل بما لا شأن له به، بتوليّه إنزال العقوبة بنفسه، والأصل في بلاد المسلمين أن يتولى القضاء النظر في مثل هذه القضايا، كي يستتب الأمن، وتستقر المجتمعات، ويقوم كلٌّ بما عليه من واجبات، وينال ما له من حقوق.
اقرأ أيضاً: لنحيا معًا بسلام.. مبادرة للحد من العنف ضد المرأة بالشمال السوري
فقيام الشخص بقتل قريبته بدعوى حماية الشرف وصيانة العرض، فعلٌ محرَّم شرعاً، وجريمة يجب أن يحاسَب القاتل عليها، وأن لا تكون القرابة أو الشك عذراً مخففاً له، لأن الأحكام لا تثبتُ بالشك، ولأن القضاء هو من يتولى إصدار الأحكام ويتابع تنفيذها لا الأفراد.
كما أن هذا القتل فضلاً عن كونه اعتداءٌ على حق المرأة في الحياة، فيه اعتداء على كرامتها بتلويث سمعتها والإساءة إلى شرفها والطعن في عرضها، وحرمانها من حق الدفاع عن نفسها وإثبات براءتها، وهو فعل محرّم لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».
كما أنه يشكل جريمة قذف في نظر التشريع الإسلامي تستوجب العقوبة، لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ». ولعلّ أبشع ما في هذا القتل أنه في غالب أحواله لا يستند إلى أدلة أو براهين، وإنما يقوم على الظن والشُّبه ويستند إلى الشك، فهو قتلٌ ظالم في بدايته ونهايته.
ثالثاً: جريمة الشرف في قانون العقوبات السوري:
كان قانون العقوبات السوري قد ألغى العمل بالعذر المُحِل من عقوبة القتل بالدافع الشريف، عندما صدر المرسوم رقم ١ لعام ٢٠١١ ، الذي منح القاتل بالدافع الشريف عذراً مخففاً.
حيث بقي قانون العقوبات السوري الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم ١٤٨ لعام ١٩٤٩، يعفي القاتل من العقوبة في حال إقدامه على القتل متذرعاً بـ“الدافع الشريف”، بمنحه عذراً مُحلًاً من هذه العقوبة.
وفي عام ٢٠٠٩ طرأ أول تغيير عليه، فبات القاتل بهذا الدافع يُحكم مدة سنتين كحد أقصى.
واستمر كذلك إلى أن صدر المرسوم رقم ١ لعام ٢٠١١ ، الذي ألغى نص المادة ٥٤٨ من قانون العقوبات السوري، التي كانت تنص على أنه “يستفيد من العذر المُحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، ويستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر” .
واستُبدلت بالمادة ٥٤٨ السابق ذكرها، المادة ١٥ من المرسوم رقم ١ لعام ٢٠١١ التي ألغت استفادة القاتل من العذر المُحل من العقوبة، في حال ارتكابه جريمة القتل بالدافع الشريف، بينما لم تأتِ على ذكر “الحالة المريبة” التي كانت مبرراً لمنح العذر المخفف في القانون القديم، والتي كان الإبقاء عليها يعرّض كثيراً من النساء لخطر القتل تحت ذريعة الدافع الشريف، بحجة “الحالة المريبة” في حال عدم القدرة على إثبات الزنا.
ختاماً.. لا بدّ من القول أن جريمة الزنا بحد ذاتها من الجرائم التي خصّها الإسلام بقواعد خاصّة جداً للإثبات، نظراً لحساسيتها الدينية والاجتماعية وعلاقتها الوثيقة بضرورة حفظ الأنساب والأموال من الضياع، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير الأسرة ابتداءً وصولاً إلى مجتمع متفكك مهترىء انتهاءً، لا يقيم للعلاقات الأسرية والاجتماعية أي وزن أو أدنى ترابط أو قدسيّة.