من يتابع (مجرى) الأحداث في السنة الأخيرة على الأقل لن يكون متفاجئاً في الصراع الذي نشب منذ أيام بين الجبهة الشامية أو اتساعها الأكبر الفيلق الثالث، وبين هيئة تحرير الشام وحلفائها من الجيش الوطني، الحمزات والعمشات ومن لفَّ لفهم.
الحرب الأخيرة تمَّ تأجيلها ممَّا يقارب ستة أشهر تقريباً عندما حاولت الهيئة الدخول للمنطقة مستغلة الاقتتال بين الفيلق الثالث وأحد مكوناته يومها وهم بعض كتائب أحرار الشام التي انضمت للفيلق ثمَّ حاولت الانشقاق عنه، وليس مستبعداً أن يكون الانضمام والانشقاق من الأساس من أجل افتعال معركة تستغلها هيئة تحرير الشام لدخول المنطقة، فالأحرار منذ إخراجهم من باب الهوى صاروا بيدقاً بيد الهيئة أو حلفائها، وهم من يمثل مصالح هيئة تحرير الشام عندما يحتاج الأمر لكيان غير مدرج على لوائح الإرهاب العالمية، وقد نجحت قيادة الهيئة بترويضهم وجعلهم جزء من مصالحها بعد الاقتتالات المتعاقبة معهم وتغيير القيادات المستمر. الذي أفرز في النهاية قيادةً للأحرار ترى مصالحها في التحالف الكامل مع الهيئة صاحبة النفوذ والسلطة المطلقة في أماكن انتشار الأحرار جغرافياً.
يروِّج الجولاني لنفسه على أنَّ المناطق التي يديرها هي الأكثر انضباطاً من الناحية الأمنية، وهذا صحيح نسبياً، إذا اعتبرنا أنَّ التجاوزات يرتكبها فصيل واحد، ومهما توسعت هذه التجاوزات هي من مركزية واحدة لا تحدث بلبلة أثناء عملية المحاسبة إن حدثت، على عكس مناطق سيطرة الجيش الوطني التي ربما تشهد تجاوزات أقل، ولكن كثرة الجهات وسعيها لتشويه بعضها وانتشارها على الإعلام تجعل الوضع يبدو أسوأ، خاصة مع عدم القدرة على المحاسبة إن توفرت النية لذلك.
هذه الدعاية جعلت الجولاني يحاول تقديم نفسه مراراً كأحد الكيانات القادرة على ضبط المناطق المحررة بإدارة واحدة مركزية وقوية، ولم يستطع الجيش الوطني تقديم الخيارات نفسها للحليف التركي، الذي لم يكن بوارد أن يفضّل هيئة تحرير الشام على الجيش الوطني مطلقاً بسبب تصنيف الهيئة على لوائح الإرهاب العالمي.
ممَّا دفع الجولاني لأن يقود في كل مرة زمام المبادرة بنفسه ويفرض الأمر الواقع، ويرتب الخطوات بعدها مع الأصدقاء والأعداء، واستطاع بذلك أن يفرض سيطرته الكاملة على منطقة إدلب وما حولها كقوة عسكرية منظمة ومدنية أيضاً، ويترك الفصائل الأخرى فقط لتهتم بالجانب العسكري المتعلق بالقتال مع النظام، (البند الأساسي الذي ورد في الاتفاق مع الفيلق الثالث).
المهم وبعيداً عن الإمعان في سرد الأحداث، ولكن ما تمّ ذكره هو خلفية ضرورية لفهم السياق العام الذي تتحرك فيه القوى في الداخل.
يدرك الجولاني أنَّ أحد أهم الخطوات لكي يخرج من التصنيف العالمي للإرهاب هو إثبات جدارته في إدارة الملف العسكري والأمني في مناطق المعارضة كاملة، فطالما بقي هناك فصائل تنتمي للجيش الحر (الجيش الوطني) سيبقى تصنيف الإرهاب في الجهة الأخرى، ولكن عندما لا توجد إلا جهة واحدة، ربما تنشأ بعد اندماج بين الهيئة والجيش الوطني إثر اقتتالات متعاقبة، أو بعد إزاحة الجيش الوطني بالقوة، سيضطر العالم لمراجعة موقفه من هيئة تحرير الشام، أو الكيان الجديد (الذي يفضله الجولاني اندماجاً) كقوة أمر واقع لابدّ من التعامل معها، واعتقد أنَّ عيون الجولاني متعلقة بتجربة طالبان في هذا السياق.
وقد قام الجولاني بهذه الخطوة من قبل، لكنها لم تنجح تماماً، عندما قرر دمج فتح الشام (الاسم الأول لجبهة النصرة بعد الافتكاك عن القاعدة) مع فصائل ليست مصنفة على لوائح الإرهاب (الزنكي وبعض فصائل الأحرار وغيرها) سعياً لخروج فصيل جديد غير مصنف.
وضمن هذه الرغبة دخل الجولاني إلى المنطقة، وليس من أجل نصرة العمشات والحمزات، ولكنه استعملهم كمبرر لدخوله المنطقة، حيث إنَّ الاختلاف الإيديولوجي وحتى العسكري والأمني كبير مع هذه الكتائب، لذلك لم تُصدر الهيئة أي بيان واضح بهذا الشأن.
الفيلق الثالث كان يرغب أن يكون هو البديل الحالي للقيادة المركزية في الشمال، وهو يعرف أنَّ عدم وجود هذه القيادة سيتسبب بدخول الهيئة واستلامها زمام الأمور، لذلك حاول الاستفادة من حادثة مقتل (أبو غنوم) لينهي أحد الفصائل الفاسدة التي تقف في وجه مشروعة الثوري، مع رهانه في حال نجاحه في ذلك على عقد جملة تحالفات جديدة مع القوى المتبقية، ووضع أفضل مع الحلفاء الأتراك، الذين لا تجمعهم بالشامية علاقات جيدة عموماً، بسبب نزوعها للاستقلالية في ملفات كثيرة.
لكن ما غاب عن تصور الفيلق الثالث إمكانية دخول الهيئة من أجل الحمزات، أو إمكانية طلب الحمزات الدعم والمؤازرة من الهيئة، خاصة خلال الساعات الأولى للاقتتال، كما أنَّ الفيلق لم يعد العدّة جيداً لحرب شاملة وقصيرة وحاسمة، ممَّا سمح بالتدخلات من جهات عديدة، وهو عادة ما يجيده الجولاني.
طبعاً سير الأحداث في عفرين يحكي الكثير، ويكشف نقاط ضعف وهشاشة في الفيلق الثالث، إذ إنَّ الكثير من مكوناته، أحجم عن القتال لأسباب متعددة، ووضع عفرين كمدينة متعددة جهات السيطرة لم يسمح للفيلق بالمقاومة داخلها، فكان قراره الانسحاب نحو مراكزه الحيوية ليكون أكثر قدرة على المدافعة، ولكن هذا الانسحاب، وإن كان خياراً تكتيكياً صحيحاً وضرورياُ، ولكنه كان خياراً موجعاً على صعيد الحرب المعنوية، إذ إنَّه رسم ظلاً كبيراً للقوة المهولة للهيئة في عيون الناس، مقابل ضعف إمكانيات الفيلق، وضعف الإرادة القتالية لدى جنوده. فليس جميع الجنود والناس على الجبهتين مدركين للبعد التكتيكي الذي قامت به قيادة الفيلق الثالث العسكرية.
بالنسبة إلى الحلفاء الأتراك فيتمثل دخول هيئة تحرير الشام لقيادة جميع مناطق المعارضة حلّا ممكناً بظروف جيدة للقضية السورية برمّتها في ظل الاستعصاء الذي تعاني منه فصائل الجيش الوطني وعدم قدرتها على التنظيم واخذ زمام المبادرة، فسيطرة الهيئة على الشمال ضمن مسمى جديد أو مسمّاها نفسه كما أسلفنا سابقاً، سيجعل المناطق التي تقع تحت النفوذ التركي أكثر اتساعاً وأكثر قوةّ وانضباطاً ومركزيةً، ممَّا سيوفر لها حليفاً قوياً على الطاولة تواجه به النفوذ الروسي الإيراني إن استطاعت أن تقنع الدول بإزالته من تصنيف الإرهاب العالمي، وإن لم تستطع ذلك فسيمثل التحالف ضد هذا الفصيل بين قوى النفوذ في سورية (روسيا، وإيران، وتركيا) والقضاء عليه ورقة ثقة بين هذه الدول وإغلاق للملف السوري بشكل كامل، ولكن ذلك طبعاً لن يجري بوقت قصير نسبياً، وإنَّما ضمن خطوات طويلة الأمد ربما تمتد بين 5 إلى 10 سنوات.
وجود قوة واحدة مركزية سيفتح باب التحالفات والمواجهات أمام هذه الكيان الجديد، فهو سيكون على تماسٍ مباشر مع النظام ومع القوى الانفصالية في الشرق المدعومة من الولايات المتحدة، فتعقُّد المشهد بحد ذاته وتوازي قدرة القوى المسيطرة فرصة لإرساء الوضع الراهن سنوات كثيرة للأمام. كما أنَّ ذلك يتقاطع مع جهود المصالحة التي تريدها تركيا.
يبقى تحليل بسيط لا بدّ من ذكره في هذا السياق، وهو احتمالية أن يكون هناك اتفاق معين بشأن إدلب وتسليمها للنظام السوري، ممَّا يجعل منح الجولاني الوصول إلى عفرين ضمن هذه الخطة، لتكون منطقة بديلة لنفوذه في إدلب ينتقل إليها مع مقاتليه بعد سيطرة النظام السوري على إدلب وما حولها. وهذا وارد جداً، وسيكون منح المعارضة منطقة (منبج) في العملية التركية المرتقبة هو البديل عن منطقة عفرين. وبالتالي فما يجري هو انزياح في مناطق السيطرة لا أكثر، بانتظار استراتيجيات جديدة لما بعد هذه الخطوة.
الإفصاح عن بنود الاتفاق الذي جرى أمس سيوضح الصورة بشكل أكبر، كما ستتضح أي السيناريوهات هي الأكثر واقعية ضمن الاتفاقات الجديدة، فسيطرة فصيل (أحرار الشام) على عفرين اليوم هو شكلي جداً، وهو سيطرة للهيئة بشكل غير مباشر. ولكن يجب أن يعلم الفيلق الثالث أنَّه سيكون الكيان الأكثر ضعفاً في المرحلة المقبلة إذا ما كانت الاتفاقات تقصيه حقيقة عن الملفات الأمنية والمدنية، لأنَّه بذلك سيصبح مجرد فرقة في مشروع الجولاني الجديد، أو ربما عليه أن يأخذ المبادرة ليكون شريكاً حقيقياً فيما تبقى له من وقت وقوة.