ذاكرة القمع.. مبادرات حكومية جديدة في مواجهة إرث الماضي

784

في مشهد لم يألفه السوريون منذ سنوات، أطلقت الحكومة السورية الجديدة سلسلة مبادرات رمزية تهدف إلى ترميم العلاقة مع المواطنين، في محاولة للتخفيف من آثار المرحلة السابقة التي طغى عليها القمع الأمني والانقسامات السياسية.

ومن بين هذه المبادرات، لفتت الأنظار خطوة قسم الشرطة الجنائية في مدينة بانياس بريف طرطوس، حيث قام عناصر الشرطة بتوزيع الورود على الأطفال في الشوارع والأحياء، في مشهد عكس روحًا جديدة في العلاقة بين السلطة والمجتمع، وأثار موجة تفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبّر المواطنون عن ارتياحهم للمبادرة التي رآها كثيرون “غير مألوفة ومفعمة بالأمل”.

من الوردة إلى الرسالة: محاولات لإعادة رسم المشهد الأمني

تأتي هذه الخطوة في إطار توجه أوسع تسعى من خلاله الحكومة الجديدة إلى إعادة تشكيل صورة مؤسسات الدولة، ولا سيما الأجهزة الأمنية، التي ارتبطت في وعي السوريين خلال العقود الماضية بمشاهد الاعتقال والتعذيب، لاسيما بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.

اقرأ أيضاً: مساعٍ كردية لتشكيل وفد تفاوضي مشترك مع دمشق

لطالما كان المرور بجانب مركز شرطة أو حاجز أمني كفيلاً بإثارة القلق والخوف، في بلدٍ اعتُبر فيه الانتماء السياسي أو الطائفي عاملًا حاسمًا في معاملة المواطن، وغالبًا ما كان الولاء للنظام السابق جواز أمانٍ أمام المحاسبة القانونية.

احتفالية الذكرى الرابعة عشرة للثورة: من البراميل إلى الورود

وفي مشهد رمزي آخر يعكس هذا التوجه الجديد، نظّمت الحكومة في 15 آذار/مارس 2025 احتفالًا رسميًا بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة لانطلاق الثورة السورية. وتم خلاله إسقاط آلاف الورود والرسائل الإيجابية من الطائرات المروحية على جموع المحتفلين في ساحة الأمويين بدمشق، في صورة تعاكس تمامًا ما كانت تمثله الطائرات العسكرية في سنوات الحرب، حين كانت تلقي البراميل المتفجرة على المدن والقرى، ناشرة الدمار والرعب.

هذا التحول الرمزي أثار مشاعر مختلطة بين الأمل والحذر، فقد رأى فيه البعض بداية لعهد جديد يسوده السلام، فيما عبّر آخرون عن خشيتهم من أن تكون هذه المشاهد مجرد حملة علاقات عامة لا تتبعها خطوات فعلية على الأرض.

ردود فعل شعبية: ترحيب مشوب بالترقب

لقيت هذه المبادرات، وخاصة تلك التي تمس الجانب الإنساني مثل توزيع الورود، ترحيبًا من فئات مختلفة من المجتمع، حيث اعتبرها العديد من المواطنين “بادرة لطيفة تُعيد بعض الأمل”، فيما أكد آخرون أنها تمثل محاولة لبناء علاقة جديدة مع الجيل الناشئ، تقوم على الاحترام المتبادل بدلًا من الخوف.

وأشار متابعون إلى أن هذه الخطوات، رغم رمزيتها، ضرورية في بلد شهد سنوات من الانقسام العميق والانتهاكات الجسيمة، لكنها يجب أن تترافق مع إصلاحات جوهرية تضمن استعادة ثقة الشعب بالدولة.

الرمز وحده لا يكفي: الطريق إلى الثقة يمر بالعدالة

ورغم الطابع الإيجابي للمبادرات، يتفق محللون ونشطاء على أن بناء الثقة لا يتحقق عبر الرمزية وحدها، بل يتطلب خطوات ملموسة تشمل إصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلة القضاء، وكشف مصير المعتقلين، ومحاسبة المتورطين في الجرائم والانتهاكات، بغضّ النظر عن مواقعهم السابقة أو الحالية.

فقد تُسعد الزهور وجوه الأطفال في لحظة عابرة، لكن الذاكرة الجمعية لا تنسى بسهولة، ولا تُشفى إلا عبر العدالة، والاعتراف، والمصالحة الحقيقية. وفي بلد لا تزال جراحه مفتوحة، فإن السلام الحقيقي لن يُبنى على الورود فقط، بل على الشفافية والمحاسبة وضمانات المستقبل.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط