ضحايا في الظل..تعاطي “الكبتاجون” يهدد حياة النساء والأطفال

مريم الابراهيم

حبوب الكبتاجون
168

داخل منزلها، تترقب ميس بقلق وارتباك عودة زوجها، تجلس بجانب أطفالها، الذين يشاركونها خوفها، الجو في المنزل هادئ إلى حد مخيف، ولكن هذا الهدوء لا يعدو كونه لحظات ترقب، عندما يسمعون فيها فتح باب المنزل، يزداد قلقهم، حيث تميز ميس بين الصوت المطمئن والصوت المزعج.

عندما يعود زوجها دون الحصول على الحبوب المخدرة، يحدث ضوضاءً عنيفة ويبدأ في التعدي الجسدي واللفظي عليها وعلى أطفالها، بالكلمات المسيئة والضرب العنيف، أصبحت تلك الأشياء جزءاً من الروتين اليومي، بينما أطفالها يراقبون بعيون مليئة بالخوف والقلق وهم يهمسون لبعضهم عن ماذا سيفعل بهم والدهم حال عودته، غير مدركين أسباب أفعاله.

الإدمان في الشمال السوري المحرر

في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، والعديد من الأزمات، تواجه بعض المجتمعات في المناطق المحررة من سوريا تهديداً يتسلل بصمت إلى بيوتها، يدعى “الكبتاجون”. هذا المخدر، الذي أصبح شائعاً بشكل مقلق، لا يقتصر أثره المدمر على المتعاطين فحسب، بل يمتد ليشمل النساء والأطفال الذين يعيشون في كنف هؤلاء المتعاطين. هؤلاء النساء والأطفال يجدون أنفسهم في موقف لا يُحسدون عليه، حيث يتحملون تبعات المتعاطي من عنف وإهمال وفقر ثم تدمير الأسر.

اقرأ أيضاً: نظام الأسد يطرح أملاك مهجري إدلب في مزاد علني

يُعتبر “الكبتاجون” واحداً من أكثر المخدرات انتشاراً في المنطقة، حيث يتسلل عبر الحدود المحاذية لمناطق النظام عن طريق التهريب وصولاً إلى عفرين، يُباع من قبل باعة مختصين وغير معروفين للجميع بشكل سري بإعداد تتراوح من آلاف الحبوب إلى حبة واحدة. وعلى الرغم من محاولات التعتيم على حجم المشكلة، فإن الحقيقة واضحة على أرض الواقع. إذ باتت مناطق الشمال مناطق رئيسية لتوزيع هذه السموم، من قبل ضعفاء النفوس، يروج للحبوب عن طريق بعض الموزعيين وبأسعار ما بين 15\20 ليرة تركية للحبة الواحدة.

المرأة ضحية العنف المتزايد، والأطفال مستقبل مهدد

في بيوت تعمها الفوضى واليأس، تصبح النساء أولى ضحايا التعاطي، فالمتعاطون الذين يعجزون عن تأمين حاجتهم من المخدر، أو يشعرون بالضيق من وضعهم، غالباً ما يفرغون إحباطهم في أزواجهم وأطفالهم، جميع النساء التي تحدثنا معهن، فضلن عدم ذكر أسمائهن “يتعرضن للتعنيف والضرب والاهانة اللفظية والنفسية، هن وأطفالهن من الأزواج المتعاطين، إذ لم يعد هؤلاء الرجال أنفسهم ، منذ بدأ تعاطيهم، تغيرت معاملتهم لنسائهم وأطفالهم، أصبحوا أشخاص غرباء عن عائلاتهم وأنفسهم. هذا الواقع المرير لا ينحصر على قصص فريدة، بل يتكرر في كثير من البيوت ولكن بصمت.

الأطفال هم الفئة الأضعف في هذه المعادلة الكارثية، هؤلاء الصغار، الذين لا يدركون ما يحدث حولهم، يجدون أنفسهم وسط عاصفة من العنف والإهمال، الأطفال الذين ينشؤون في بيئة كهذه يعانون من مشاكل نفسية وصحية كبيرة، يقول الطبيب: “موفق العموري” اختصاصي علاج الإمراض النفسية لدى البالغين، والاضطرابات السلوكية للأطفال: “نرى تأثير التعاطي على الأطفال بشكل متزايد، فهم يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي، من قبل آبائهم وأمهاتهم ما يؤدي إلى ظهور أعراض مثل القلق والاكتئاب وحتى مشاكل سلوكية خطيرة”.

الإدمان قاع عميق لا يمكن الخروج منه بسهولة

ميس (35 عامًا) أم لأربعة أطفال، كانت تعيش حياة مستقرة حتى بدأ زوجها في تعاطي الكبتاجون، تتحدث بصوت متقطع عن تجربتها: “زوجي كان رجلاً طيباً، كان يعمل بجد لتأمين حياة كريمة لنا، لكن كل شيء تغير عندما بدأ بتناول تلك الحبوب المخدرة، أصبح عنيفاً بشكل لا يصدق، في البداية كان يضربني فقط عندما يكون في حالة غضب، لكن الأمر تطور ليشمل الأطفال أيضًا” تتوقف للحظة، ثم تضيف: “لقد حاولت الهرب عدة مرات، لكنني لا أملك مكان أذهب إليه، أنا عالقة هنا، وأخشى أن ينتهي الأمر بنا جميعاً في “القبر” بسبب هذا الإدمان “.

حيان (42 عامًا) كان عامل بناء ناجح قبل أن يصبح ضحية التعاطي، بعد عدة سنوات خسر عمله، وأصبح يعيش في فقر مدقع مع زوجته وأطفاله الثلاثة يقول حيان: “لم أكن أعتقد أن الأمور ستصل إلى هذا الحد كنت أتعاطى الكبتاجون للهرب من الواقع، لكنني لم أدرك أنني كنت أهرب من مسؤولياتي أيضًا،

أنا أحرم أطفالي أحياناً من الطعام، لشراء بعض الحبوب وفي بعض الأحيان أشتري حبة واحدة، المهم الا أشعر بذلك الركض المتواصل داخل رأسي عندما افتقد المخدر، الآن أنا عاطل عن العمل، وأطفالي يعانون من الجوع والفقر، زوجتي تهددني بالرحيل كل يوم، وأنا أعلم أنني السبب في كل هذا” يضيف بنبرة حزينة: “حاولت التوقف عن التعاطي، لكن الأمر أصعب مما كنت أتصور، أنا في قاع الحفرة ولا أرى مخرجا”.

حليمة (19عامًا) تحمل على أكتافها هموماً نفسية أثقلت كاهلها منذ عامين، العنف الذي تعرضت له من شقيقها المتزوج، الذي يعيش معهم، حطم عالمها الداخلي، زوجته تركته بسبب طبيعته العدوانية، وظلت حليمة وحدها تعاني من آثار الذهان والاكتئاب نتيجة الضرب المتواصل، عجز الشقيق عن تقبل رفض المجتمع تزويجه، فاختار أن يفرغ كل فشل وإدمان في جسد وروح أخته.

“منذ عامين لا أرى سوى شبحه يدخل حاملاً عصاه”، هكذا تصف حليمة خوفها المستمر، والدها قد رحل منذ زمن طويل، ووالدتها العاجزة عن إيقافه تقف شاهدة صامتة على معاناتها، اليوم تعيش حليمة مع شعور بأنها لم تعد تصلح للزواج أو أن تصبح أماً.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا

مرام (29 عامًا) وجدت نفسها فجأة مسؤولة عن تربية أطفالها الخمسة وحمايتهم من زوجها الذي أصبح وحشاً غير معروف بالنسبة لها تقول مرام: “كنت أعلم أن زوجي يتعاطى الكبتاجون، لكنني لم أدرك مدى خطورة الأمر حتى بدأ بضربي، أحسست أنه لم يعد متزن، حاول مراراً إن يجعلني اتعاطى ذلك المخدر معه، بوصف شعوره السعيد أثناء الساعات الأولى من تناوله، إلا أنني كنت مدركة لما سيحل بي لاحقاً إن تناولت تلك الحبوب، “كنت أرفض وكان يضربني “حاولت التحدث معه مراراً، لكن الإدمان يحوله إلى شخص آخر، شخص لا يعرف الرحمة” تعيش مرام في خوف دائم من أن تؤدي إحدى نوبات غضب زوجها إلى كارثة، تقول بخوف: “أنا لا أستطيع ترك أطفالي معه”.

ماهو الكبتاجون؟

حبوب الكبتاجون (Captagon)، وباسمها العلمي فينيثايلين (Fenethylline) عبارة عن حبوب تم تصنيعها من مزج كل من مادتي الأمفيتامين (Amphetamine) المنبه للجهاز العصبي المركزي والتيوفيلين (Theophylline).

لقد تم تصنيعه بداية في عام 1961، واستخدم بعدها من أجل علاج الأطفال المصابين بقصور الانتباه وفرط الحركة (ADHD) أو كعلاج بديل لمرض التغفيق والاكتئاب، وفي المقابل، تعد حبوب كبتاجون مادة مدمنة جدًا، ولهذا السبب بالتحديد أصبحت غير قانونية في معظم دول العالم منذ عام 1986.

تناول الكبتاجون يؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبي المركزي، مما يؤدي إلى إطلاق كميات كبيرة من النواقل العصبية، مثل الدوبامين والنورإبينفرين، في الدماغ. هذا يؤدي إلى زيادة في اليقظة والانتباه، شعور بالنشوة، وزيادة في الطاقة، ولكن مع مرور الوقت والاستخدام المتكرر، يبدأ الدماغ في التعود على هذه المستويات العالية من النواقل العصبية، مما يؤدي إلى:

اعتياد الدماغ على الكميات الكبيرة من الدوبامين التي ينتجها “الكبتاجون”، مما يجعله يتطلب المزيد من المخدر لتحقيق نفس التأثير، هذا يؤدي إلى الاعتماد الجسدي والنفسي على الكبتاجون.

يتسبب في تلف دائم للخلايا العصبية في الدماغ. الذي بدوره يؤدي إلى مشاكل مثل اضطرابات الذاكرة، ضعف التركيز، وانخفاض القدرة على التفكير العقلاني.

الاستخدام المزمن يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب، القلق، والذهان (حالة من فقدان الاتصال بالواقع). يمكن أن يعاني المستخدمون من هلوسات، جنون الارتياب (البارانويا)، وأفكار انتحارية.

كما يؤدي إلى الإجهاد العصبي ونتيجة للآثار النفسية، يصبح المتعاطي عرضة للسلوك العنيف والعدواني، هذا التأثير يصبح أكثر وضوحًا مع تزايد الإدمان وفقدان القدرة على التحكم في الغضب والانفعال. ذلك حسب الطبيب “موفق العموري”

يضيف الطبيب موفق العموري : “يراجع العيادة النفسية كثير من المرضى المتعاطين بغية التخلص من الإدمان، وهم بإزدياد، علاوة على ذلك هناك حالات لأطفال تقوم أمهاتهم باصطحابهم إلى العيادة، لعلاج السلوكيات الخطيرة التي تنتج عن مشاهدة ممارسة العنف المتكرر اليومي على والدتهم وأحياناً عليهم، من قبل الزوج والأب المتعاطي، التي قد تؤثر بشكل مباشر على تطور نمو الطفل العقلي والنفسي.

تحدثنا هيفاء قصاب مسؤولة ضمن فريق للصحة النفسية عن المعاناة التي يواجهها الأطفال والنساء نتيجة تعاطي الأزواج لمادة “الكبتاجون” المخدرة.

“عندما يتعاطى الزوج “الكبتاجون”، تتأثر الأسرة بشكل مدمر، النساء غالبًا ما يعانين من العنف الجسدي واللفظي، حيث يصبح الزوج غير قادر على التحكم في غضبه وسلوكه.

يؤدي هذا إلى بيئة أسرية مليئة بالخوف والقلق وعدم الاستقرار، تؤدي إلى الطلاق في أغلب الأحيان ومشاكل نفسية كبيرة تكون ضحيتها المرأة.”

“بالنسبة للأطفال، فإنهم يتعرضون لظروف نفسية قاسية نتيجة الأوضاع الأسرية المتوترة. يعيشون في حالة من القلق المستمر وقد يعانون من مشاكل في الأداء الدراسي والسلوك. أن الخوف من العنف والاضطراب العاطفي الذي يشهدونه في المنزل قد يؤثر بشكل كبير على نموهم النفسي والاجتماعي.”

تختم حديثها فتقول:” هؤلاء الضحايا لا يظهرون دائمًا في السجلات أو الدراسات. العديد منهم يعيشون في صمت ويخافون من طلب المساعدة، من المهم أن نزيد الوعي ونوفر الدعم الكافي لهم. علينا تقديم الخدمات النفسية والعلاجية اللازمة ومساعدتهم في بناء بيئة أكثر أمانًا واستقرارًا لأسرهم.”

المسؤولية المجتمعية والمبادرات المحلية

في الأنظمة القانونية، ضمن الشمال السوري المحرر، تتبع الأساليب القانونية التالية: يُمكن للشخص الذي يُسلم نفسه طواعية بسبب تعاطي المخدرات أن يتجنب تحريك الدعوى العامة ضده، مما يمنحه فرصة للمعالجة دون التعرض للعقوبات القصوى. عادةً ما تتراوح مدة توقيفه من شهر إلى سنة، بناءً على تفاصيل القضية.

عادةً ما يُعتمد على اعتراف المتهم بدلاً من الفحوصات الطبية في إصدار الحكم. العقوبات تشمل السجن، وقد تكون مدته متغيرة. تفتقر المنطقة إلى وجود مصحات متخصصة في علاج الإدمان، بحسب مكتب النائب العام بوزارة العدل.

المبادرات المحلية لا تزال قاصرة عن تقديم حلول جذرية، إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب استجابة شاملة من جميع الأطراف المعنية لضمان تقديم الدعم والعلاج الفعال، والحد من انتشارها، وحماية الأجيال القادمة من تأثيراتها.

يشكل التعاطي مشكلة خطيرة تؤثر على الأفراد والمجتمع بشكل كبير. الأسباب تشمل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، الفقر والبطالة، ونقص التعليم والتوعية. المخاطر تتضمن أضراراً صحية بدنية ونفسية، بالإضافة إلى التأثيرات الاجتماعية مثل تدمير العلاقات الأسرية وزيادة معدل الطلاق وتشتت العلاقات والجريمة، كما تؤدي أحياناً بالمتعاطي أو المتأثرين من حوله إلى الانتـ.ـحار.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط