طفولة بلا حضن.. كيف تصنع فُرقة الأهل طفلاً يغترب عن نفسه؟

رؤى الزين

الأسرة والطفولة
2٬411

“أمي مو غريبة… بس مو قريبة. بحبها، بس بحسها مو إلي.” بهذه الكلمات تلخص حليمة الأحمد، فتاة من مدينة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي، شعور الفقد الطويل الذي عاشته منذ أن افترقت عن والديها وهي لا تزال طفلة بعمر الست سنوات.

في مطلع العشرين من عمرها اليوم، تحمل حليمة على كتفيها ثقل سنوات قضتها دون حضن أم أو توجيه أب، بعدما اضطرت عائلتها للجوء إلى لبنان مع انطلاقة الثورة السورية، تاركة إياها وأخوها في كنف بيت جدهم، أملاً في إكمال دراستهما وتخفيف العبء المادي.

غربة من نوع آخر

لم يكن فراقًا مؤقتًا يُرمم بالوقت، بل اغترابًا طويلًا طبع سنوات مراهقتها بالخوف والبرد والوحدة. عاشت حليمة تحت صوت القصف وظلّ النزوح، تنضج قبل أوانها وسط غياب الأبوين.

رغم المكالمات العابرة، بقيت العلاقة مع والديها هشة وسطحية، لا تسند قلبًا ولا تبني ذاكرة. شيئًا فشيئًا، وجدت حليمة انتماءها في بيت جدها، وحنانها في عمتها، وأمانها في عمّها.
تقول بحزنٍ: “كبرت وما حسّيت فيهم… صرت لما أسمع كلمة ماما أو بابا، أحسها غريبة، كأنها ما تخصّني.”

الأثر النفسي للفُرقة وتحليل الإرشاد النفسي لها:

تشرح المرشدة النفسية ياسمين الأسعد أن “الطفل الذي ينفصل عن والديه لفترة طويلة قد يُصاب باضطرابات في التعلّق، كصعوبة في الثقة بالآخرين، أو التعلّق الزائد خوفًا من الهجر”.

وتضيف أن القلق من الانفصال، تدني تقدير الذات، وحتى السلوكيات العدوانية، قد تظهر كردود فعل نفسية على تجربة الفقد العاطفي.

اقرأ أيضاً: وزارة الرياضة السورية تُسمي ملعب حمص باسم “الشهيد عبد…

وتُشير الأسعد إلى أن الهوية النفسية والاجتماعية تتشكّل في الطفولة عبر علاقات مستقرة ودافئة، وفي حال غياب ذلك، “يُولد لدى الطفل شعور بالتشتّت، الضياع، وحتى الاغتراب الذاتي، أي أن يشعر بأنه غريب عن نفسه، لا يعرف من هو فعلًا”.

الزمن لا يُشفي وحده

في حالة الأطفال مثل حليمة، يُطرح السؤال: متى يبدأ الطفل بالتأقلم مع بيئة جديدة بعيدًا عن والديه؟
تقول الأسعد: “قد يبدأ الطفل بالتأقلم خلال 3 أشهر فقط، وقد يحتاج لسنوات، وذلك يعتمد على البيئة الجديدة ومدى احتضانها له عاطفيًا ونفسيًا”.

وتؤكد أن الأطفال الذين انفصلوا عن ذويهم في عمر مبكر جدًا، لا يُدركون غالبًا مشاعر الفقد بشكل مباشر، لكن تأثير ذلك يظهر لاحقًا في المراهقة أو الرشد في شكل صعوبات في العلاقات الشخصية أو أزمة هوية.

ترميم العلاقة… هل هو ممكن؟

عن إمكانية استعادة العلاقة بين الطفل وأهله بعد انقطاع طويل، تقول المرشدة النفسية: “نعم، من الممكن. لكن ذلك يتطلب جهدًا واضحًا ومشتركًا من الطرفين، وتهيئة نفسية تدريجية، وليس عودة مفاجئة”.

وتقترح الأسعد مجموعة من الحلول والدعم لمعالجة هذا النوع من الفقد، من أبرزها:

جلسات دعم نفسي لإعادة الثقة بالنفس، وتخفيف الشعور بالوحدة، وتعزيز القدرة على تكوين علاقات اجتماعية ،والتواصل المستمر من قبل الأهل، سواء عبر المكالمات أو الفيديو، ثم تخصيص وقت فعلي مع الطفل عند اللقاء، أيضاً توفير بيئة مستقرة عاطفيًا واجتماعيًا، مع تشجيع الطفل على التعبير عن مشاعره والمشاركة في الرأي.

ربما تجاوزت حليمة سنوات الطفولة، لكن الأثر ما زال حيًّا في ذاكرتها. فالحرب لم تسلبها بيتها فقط، بل أيضًا سلبتها أهم عناصر الطفولة: الحضن الدافئ، والأمان الأسري، والهوية المتماسكة. وهي، ككثير من الأطفال السوريين، ما تزال تبحث عن إجابات داخلها، وتسعى لإعادة وصل خيوط انقطعت في وقتٍ مبكر جدًا من حياتها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط