يبدو أن ما بدأته فرنسا (أم الحريات الأوربية) في معاداة الإسلام والانتقاص من حرية الإفراد بسبب دينهم هو إستراتيجية جديدة لإعادة رسم مفهوم الحريات والقيم ضمن المنظور الكنسي القديم الذي ثارت عليه فرنسا نفسها ومن ورائها كل أوروبا.
فما كانت تفرضه الكنيسة بسلطة الدين، أصبحت اليوم تفرضه الدولة الحديثة (الديمقراطية والحرة!!) بسلطة الدولة، ويبدو أن الوهج الحضاري الغربي قد بدأ يتكئ على محوره القديم ليصنع الانتكاسة الخاصة به، التي ستكشف أن هذا الوهج لم يكن إلا وَهمًا سلب أنظار الكثيرين بقشور حداثية غفلت عن الكثير، ممَّا يحترم الإنسان وكرامته.
وكل المُتعامين عن الطريقة التي كانت القِيم الأوروبية تتعامل بها مع الإنسان، والمتجاهلين لازدواجيتها التي كانت تعطي الإنسان الغربي ما لا تعطيه لغيره، والمتأثرين بحجم الداعية الهائل الذي كان يرسخ صورة العدالة والحرية والمساواة الزائفة التي لم تكن إلا لمزيد من الاستغلال للإنسان وتسخيره في مصلحة المادية والنفعية للنخبة الأوروبية، كل هؤلاء يستطيعون أن يروا بوضوح أن هذه القيم لم تكن حقيقية، إذ مجرد تأثيرها على مصالح هذه النخبة بدأ أصحاب الحريات بتقييد الحقوق الأساسية للإنسان! بدءًا بحرية الاعتقاد، وانتهاءً بحرية التعبير الذي عبَّر عنه وزير الداخلية الفرنسي أول أمس عندما صرَّح أنه طلب من الشرطة منع خروج أي مظاهرات ذات علاقة بالتوتر في الشرق الأوسط، سبقه عدم الاعتراف بحق الفلسطينيين بالدفاع عن أنفسهم من قبل المتحدث باسم الخارجية الأمريكية.
طبعًا هذا ليس جديدًا كليًا، لكنه في هذه المرحلة بدأ يظهر بشكل أكثر وقاحة في تنكّر مباشر لكل القيم التي صدَّع الغرب رؤوسنا بها، وفي قرارات مباشرة تصادر الحريات وتنتقص من حقوق الإنسان الأساسية، وإن كان من قبل واضحًا جدًا في دعم هذه الحضارة! لعدد كبير من المجرمين والأنظمة القمعية التي تضمن مصالح الغرب على حساب شعوبها، وفي مقدمتها الكيان الغاصب في فلسطين، والنظام السوري، ومعظم الأنظمة العربية، والكثير من الأنظمة القمعية في إفريقيا وشرق آسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، وفي استخدام حق الفيتو مراراً من أجل دعم الطغاة والمجرمين الصهاينة من قبل الأمريكيين وأشباههم في سوريا من قبل الروس، ورعاية مجلس الأمن لهذا العهر والجريمة لأنها تندرج وفق قوانينه!!
هذه الأنظمة التي امتهنت الإنسان ومارست بحقه أبشع أنواع الإجرام والقتل والتعذيب والاستغلال والظلم برعاية ودعم مباشر كان وما يزال مستمرًا من ممثلي ما يُسمى الحضارة الغربية وقيمها الزائفة.
في فلسطين اليوم معركة يخوضها المقدسيون والغزاويون في سبيل كرامة الإنسان وحقوقه والعدالة المفقودة والحرية الكبرى التي يحلم بها العالم، ومن ورائهم تخوض شعوب المنطقة معارك مماثلة من أجل أن تسترد قيمها الحضارية الخالدة ووجودها الثقافي المتميز، لا من أجل أن تفرض حضارات مواربة عليها قيمًا زائفة بدأت بخيانتها والتخلي عنها قبل أن تسود في مجتمعات هذه الحضارات نفسها، وقبل أن تحترم حرية الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية في هذه الدول التي تدَّعي أنها دول العالم المتحضر!
المدير العام | أحمد وديع العبسي