حتى كتابة هذه المقالة يبدو قرار اللجنة الثلاثية سارياً، ويظهر على الأغلب أن هناك توصيات لأب عمشة بعدم معارضة القرار الذي يشبه الأحكام القضائية إلى حد ما، ولكنه حكم غيابي بدون استدعاء للجناة، وبدون قوة قادرة على انفاذه، فما يُراد لهذا الحكم هو أن يُنفذ بالتراضي، كما يبدو حتى الآن على الأقل …
اللافت في الموضوع هو التأييد الشعبي والمؤسساتي العارم للحكم، فالجميع كان يعرف فساد هذا الرجل وإجرامه بحسب ما ظهر من تفاعل حول الحكم بحقه، ولكن كل هذا (الجميع) كان يلتزم الصمت والخوف، حتى إذا ما أحسّ الناس قرب وقوع الجاني، سكنتهم الشجاعة والعزيمة، ووقفوا ينشبون ما تبقى من عصي رماحهم المنكسة في ظهره، وامتلأت أفواههم بالبيان في مهاجمته ومحاسبته.
ولعمري ما هذه سجايا الثوار ولا طريقتهم، ولا هذه بلاد الثورة ولا محاكمها، وإنما هذه عيشة المستأمن الضعيف في بلاد الحق والباطل.
ليس غريباً في حالات الحرب ما حدث، وليس مستغرباً أيضاً أن يكتفي القرار بالعزل، دون المحاسبة على مئات القضايا التي تدين الرجل بحسب ما يتحدث الناس حوله، كما ليس مستغرباً أن يتم تجاهل ثروة الرجل ومكان إقامته الجديد بعد تقاعده عن الثورة والقتال بأمر شبه قضائي.
أن تتمكن من إيقاف قائد فاسد، يعتبر إنجازًا في حالة الأزمة المعقدة التي نمرّ بها في المناطق المحررة من اشتباك بين نفوذ الدول والتيارات العسكرية والجهات المدنية والاجتماعية، إنجازا كبيراً لو تمّ لنهايته كما هو متوقع حتى الآن، أمّا المحاسبة الكاملة التي يطالب بها بعض الناس، فهو أمر متعذر جداً، ولا يخفى على أحد هذا، لأن أي فاسد ستتم محاسبته وهو يملك القوة والنفوذ سيقاوم وسيحدث حرباً جديدة وبلبلة جديدة في خرائط النفوذ الداخلي المبلبلة أصلاً في الشمال السوري، وربما يؤدي إلى تحالف كبير للفاسدين يمنع حتى من القدرة على إيقافهم مستقبلاً، أو المساس بهم بأي شكل، وربما أيضاً يكون بوابة للاتهامات التي تطال (غير الفاسدين) لإخراجهم من المشهد السلطوي لكي لا تتشكل أي قوة لمحاربة الفساد مستقبلاً.
الثورات لا تؤمن عادة بهذه الطرق في المحاسبة، وإنما تنصب المقاصل، وتنتقم من الأعداء والخونة قتلاً أو نفياً بعد تجريدهم من كل شيء ليكونوا عبرة لغيرهم، كما في المشاهد الدرامية التي تختزلها الذاكرة عن الثورة، أو كما في النصوص التي قرأناها عن ثورات الشعوب تاريخاً وروايات.
والمهم هنا عند هذه الملاحظة وغيرها، هو أن نعلم أن توصيف الثورة لم يعد صالحاً لما نعايشه من أحداث في سورية، وأن التمسك به، هو من باب التمسك بالماضي والأحلام والرومانسية الزائفة تجاه قضيتنا، فما نعايشه لا يعدو كونه حرباً مفتوحة مع وقف التنفيذ، أو مع استراحات مطولة وسط تعقد المشاهد الإدارية والسياسية والإقليمية والعالمية، وتشابكها في بلادنا التي تشكل إحدى زوايا مسرح الأحداث القاسية حيث تنفذ كل مشاهد العنف والرعب والتخويف والجريمة.
ولا مكان لا للثورة ولا الثائرين في هذا المشهد، حيث لم يتبق لديهم منذ خمس سنوات على الأقل إلا الصراخ والشعارات والمزاودة على الناس، فغالبية من يعتقدون الثورة في أنفسهم ويصدعون رؤوس العباد بها مشغولون في حياتهم وتأمين رفاهها خارج البلاد أو داخلها، وهذه ليست من طباع الثائرين.
تبقى قلة قليلة ما زالت الثورة تدوّخ عقولهم، ويسكرون بها، ويدفعون من أجل سكرتهم تلك كل الأثمان الباهظة من حياتهم كعادة المدمنين، وهؤلاء ثلة من الحمقى أو الغافلين، نسأل الله لهم العافية.
ولا أقول هذا استخفافاً بالثورة أو مهاجمة لمن يعتقدونها في أنفسهم، وإنما أحاول أن أوصف الواقع ما استطعت، حتى تنقشع الغشاوة عن عيون البعض، ويسكت الآخرون عن مزاودتهم التي يريد قسم منهم أن يأكل الخبز بها لا أكثر، ولا نلومهم، فالخبز غاية شاقة في هذه الأيام، ولكن ليأكلوه بصمت وبلا مبالغة.
إن لم نتجاوز الثورة إلى ما وراءها لن نصنع شيئاً في المستقبل، وسنموت حالمين ضعفاء سكارى بالشعارات القديمة في أرض محررة تمتد على دولتين!!، بينما عدونا يخطو على أجسادنا التي أردناها فداء للثورة لا للوطن، فمات الوطن وبقيت الثورة كالراية البالية فوق النعوش.
يعرف (الثوار) أن قرار اللجنة الثلاثية لم ينفذ بعد، وأن من يستطيع إيقافه لو فعل، فلن يستطيعوا دفعه أو رده، أو إيذاء عمشة واحدة من كتيبة العمشات كما يسمونها، وسيتعايشون معه، وربما يعتذر بعضهم إليه، ويعرفون أيضاً أن أب عمشة غيض من فيض، فليقوموا إليه إن استطاعوا، أو إن كان بهم بقية ثورة كما يدّعون، أو ليكونوا أكثر عقلاً، وليلتفتوا إلى أساليب أخرى لإدارة الفوضى التي نعيشها، بغير هراء الثورة والتثاور.
والسلام …