أسئلة الثورة، لماذا يجب أن نتجاوزها؟!

أحمد وديع العبسي

0 1٬515

أحاول منذ ثلاث سنوات تقريباً بين وقت وآخر أن أنعي الثورة، وأن أحضّ أولئك الذين ما يزالون يحملون قيمها وأهدافها على تجاوزها وتعريفها كأداة منتهية الصلاحية، وأصرّ دائماً أن العقلية الثورية بمفهومها التقليدي غير قادرة على المضي قدماً، وغير قادرة على تحقيق التغيير، وغير قادرة على الفعل والمشاركة في الواقع الذي وصلت إليه قضيتنا السورية، ودائماً ما أسعى لتقديم إجابات مختلفة وعديدة جداً، سواء من خلال المقالات التي أكتبها في المناسبات الثورية أو بدون مناسبات، أو في الحوارات والنقاشات التي تجمعني مع أصدقاء درب مازالوا يؤمنون بالثورة كأداة، أو للأسف كانتماء، وأقول هنا للأسف لأنني لا أرى أن الثورة تصلح كانتماء حتى في أحسن أحوالها وأفضلها، فكيف وحالها اليوم ما نعرفه من التردي والتراجع، ولا أجد أيضاً أن لفظ الثائر أو الثوار إلا لفظاً مرحلياً لا يستحق أن يوصم الإنسان السوي به دائماً، وأرى أن كل الذين حاولوا أن يبقوا ثواراً بعد نصر ثورتهم أو هزيمتها، وقدسوا معاني الثورة وألفاظها تحولوا إلى مستبدين وطغاة، وهدموا قيم الإنسان قبل أن يهدموا قيم الثورة والمواطنة.

وقد آثرت أن أتحدث اليوم بعيداً عن ذكرى الثورة، كي لا أجرح أصحابها، واحتراماً لذكراها وذكرى من ضحى في سبيل وطنه وقيمه ومعتقداته من خلالها، فأنا أقدر الذكريات جيداً، ولكنني لا أحبذ أن أحملها إلى الغد، فهي ثقيلة نوعاً ما وغير نافعة بمجملها، وإن كانت تحمل النفع بالتعلّم والاعتبار.

في هذه المقالة سأحاول تلخيص أهم الأسباب التي تجيب عن أسئلة الثورة وأهمية تجاوزها، ولماذا لم تعد قادرة على الاستمرار، ولماذا أيضاً يجب أن تكون الثورة أداة وأداة مرحليّة، ولماذا لا تصلح انتماءً، وكيف حوّلها البعض إلى أداة للارتزاق والمزاودة، وكيف صارت الثورة للكثيرين أداة للتعبير عن الذات المنتفخة والمتورمة، وحتى تعبيراً عن الذات والوجود الطبيعي عند البعض الآخر في بلدٍ كانت ذات الإنسان مقموعة فيه، وتحقيقها يكاد يكون مستحيلاً، ولم تخرج ذوات الناس وترى وجودها إلا من خلال الثورة، فصارت الثورة هي المجال الحيوي الذي تتحرك فيه الكثير من الذوات وتعبر به عن وجودها، وتدافع عنها لأنها تخشى أن تزول بزوال الثورة، فهذه الذوات لم تجتهد لتجد نفسها بأي شيء سوى الثورة، بقيت خاوية فارغة تعاني عُقد النقص واحتمالات الفناء، فهي تخاف أن تعود لهامش الحياة إذا لم يتبق ثورة تبعبع وتبقبق من خلالها وتعلن قيمتها وأهميتها ودورها المحوري في الحياة والكون والقضية والأسبقية، والتفضّل على الآخرين ببذل الدماء والتضحيات، هذه الذوات هي مشاريع طغيان أن استمرينا برعاية عقلية الثورة والتثاور.

في مفهوم الثورة، هي انتفاضة من أجل الحقوق والحريات والعدالة، فهي في أصل تعريفها أداة يستخدمها الناس، الذين سيصير اسمهم الثوار فيما بعد، من أجل استعادة حقوقهم وأوطانهم، والناس يحملون الثورة كالسيف ليضربوا به وجوه الطغاة، فلا معنى بأن ينتمي الناس إلى سيوفهم، أو أن يحمي الناس السيوف التي وجدت لحمايتهم، أو يتمترسوا خلف سيف منكسر النجاد ليحموه بأرواحهم وصدروهم العارية، فيموت الأبطال، وتبقى السيوف كشواهد قبورهم لا أحد يحملها، يأكلها الصدأ وتدوسها مجنزرات الأعداء وهي تدوس جثث أصحابها. وحق الأدوات التبدّل والتغيّر، لا المنافحة والمكافحة دونها.

لا معنى من الانتماء للأدوات، لأن الأدوات زائلة، وفي أحسن الأحوال إن انتصرنا بها تبقى كذكريات وكتماثيل ولوحات تخلد ساعة النصر، فكيف ينتمي الإنسان لما صنعه، بدلاً من أن تنتمي الصنائع لمبدعها، وفي النصوص نقول: “ثورة السوريين”، فهي تنتمي إليهم، ولا نقول “سوريو الثورة”، فهذا حطٌّ من شأنهم، وإهانة لهم، وكأن الثورة هي من صنعتهم وأعطتهم قيمتهم، لا هم من أشعلها وحملها وواجه بها وضحى من خلالها في سبيل وطنه لا في سبيل الثورة.

لا تتحول الأدوات إلى أوطان، فهي لا تقدر على حمل أصحابها، فلا يُحمل الإنسان على سيفه، ولا على بندقيته، ولكن الإنسان يحمل السيف والبندقية على جزء منه، لا على كُلِّيته، فلا يجدر بنا أن نضحي بالوطن والأرض لكي تحيا الثورة، ولا أن نضحي بالناس لأنهم لا يحبونها، فنحن صنعنا الثورة لكي نأتي من خلالها بالخير والحق للجميع لا للثوار فحسب، فالعدالة والحرية لا نحملها كقيم لكي تضعنا فوق الناس، بل لكي تضعنا جميعاً في وطن واحد، والإنسان أيّاً كان هو أكرم من الثورة، وهو أعلى شأناً منها، ما دام يؤمن بالقيم التي يكافح الناس في سبيلها (الحق والحرية والعدالة …)، ولا يضع من شأنه أنه لم يكن ثائراً يوماً، أو أنه لا يحب الثورة، ويرى الكفاح في سبيل قيمه بأساليب أخرى.

لا معنى للثورة عندما تختفي مقوماتها، فنحن اليوم ندير شبه دولة، ونحاول التخلص من الفوضى، ونفاوض ونمارس السياسة، وكل هذه الأمور ليست من خصائص الثورات، فالثورات هي فن إدارة الفوضى، وهي التعالي في وجوه الخصوم، والقتال في سبيل الحق، والسياسة على فوهة البنادق، والبقاء في أتون المعركة على أرض الوطن، أمّا ما نعيشه اليوم هو (مرحلة ما بعد الثورة)، البحث عن الاستقرار والعمل والمعيشة، وهي مرحلة تدار بطرق مختلفة، لا تعني اختفاء الحق أو التخلي عنه، وإنما لا تناسبها عقلية الثوار ولا طريقتهم ولا خطابهم …، وإلا فإننا سنُدخل الناس في حروب جديدة لم نعد نقدر عليها، ولن يقفوا معنا من أجلها.

تعقدُ المشهدِ الدولي وتكاثرُ الأعداء وندرةُ الأصدقاءِ وتضارب المصالح وتعدد أصحابها، جعل المشهد السوري الأعقد حالياً سياسياً وعسكريا واجتماعياً وإنسانياً، فكيف ستعرف الثورة وجهتها، وكيف بإمكاننا إعادة توحيد صوتها، إن لم تتوحد صفوفها، وقد افترقت الطرق بأهل الثورة وأهل البلد وغادر معظم الثوار الأوائل أو ماتوا، ومن بقي منهم قست عليه ظروف الحياة والمعيشة، فكيف يمكن أن تُستولد الثورة مرةً أخرى من هذا العقم الكبير.

هناك من يرتزق بالثورة، هؤلاء لا يستطيعون التخلي عنها، فهي تمثل لهم المشاريع والحضور، والأموال والمكانة، وهؤلاء هم أكثر المزاودين على الناس سواء في داخل البلاد أو في خارجها، وأغلبهم صار خارجها، أو في مناطق شبه آمنه، هؤلاء يخافون انتهاء الثورة كما يخافون من الموت، يستعجلون الوصول إلى السلطة، ويطالبون دائماً بمكانتهم في كل المؤسسات والمجالس والمؤتمرات، أو يبعبعون دوماً بالاعتراض والتخوين والتصنيف، لأنهم وحدهم الثوار! ولأنهم كما يزعمون ضحوا وقدموا الشهداء من ذويهم على مذبح الثورة، ولأنهم أدرى الناس بكيفية إدارة شؤون البلاد الثائرة، يعيدون انتاج البعث بعباءة جديدة لا تختلف عن عباءته القديمة التي ادعى فيها الثورة وما زال يفعل. وهؤلاء في الحقيقة أكثر الناس خواءً، وأقلهم علماً وتحصيلاً، وأضعفهم خبرةً، يجيدون الصراخ والهتاف والسباب ليعلنوا أنهم هنا، وأنهم فئة الحق، دونهم فئات الضلال والإرجاف والخونة والصلح.

إنني لا أدعو لأن يتوقف النضال، ولكني أدعو لأن تتغير أساليبه، ويكفّ البعض عن المزاودة وتحميل الناس أعباء حماقاتهم، فالمشهد اختلف كثيراً عمّا كانت عليه وحدة البدايات ونقائها، والنضال يجب أن يستعيد بوصلته ليكون في سبيل الوطن والقيم لا الثورة، فقد تُشعل ألف ثورة لأجل هدفك، وقد تقتل ألف ثورة لأجله أيضاً.

والثورة أداة مرحلية لأنها كما قلت سابقاً إدارة الفوضى، والناس يريدون بطبيعتهم الاستقرار والوصول للحق والعدالة والنظام، والبقاءُ على الفوضى يُتعبهم، ويجعلهم يثورون يوماً بوجه الثوار أنفسهم. فلا يمكن أن تستمر الحياة بعقلية صاخبة لا ترضى إلا بالمثاليات التي حملتها أول مرة.

لقد وصلنا قبل الآن إلى طرق مسدودة، وما زلنا نناطح الجدران برؤوس أثخنتها الدماء بلا فائدة، وإذا لم نتوقف فسنموت، كما في شعارنا الشهير “الموت ولا المذلة”، ولا أدري أي عزٍّ يجلبه موت المهزومين، وليست جهنم بالعزّ أفضل منزلٍ كما قال عنترة، ولا أريد الذلّ لنفسي ولا لأبناء وطني، ولكن من قال إن مقامات الحياة تتراوح فقط بين الموت والذل!!! أزعم أن للحياة بين الموت والذل ألف مقام مليئة بالمراوغة والمناورة وخداع الحروب والمداهنة والمهادنة والوسع والاستطاعة والكر والفر والكمون والالتفات والالتفاف … وغيرها الكثير، فما لا يأخذ جلّه لا يترك كلُّه، ومن يضحك أخيراً يضحك كثيراً، وحتى أخيراً هذه، هناك طريق طويل من العمل والدأب والأخذ بالأسباب لكي يكون النصر حليف الحق وأهله في نهاية المطاف.

إن أدوات السياسة لا تصلح مع أدوات الثورة، لأن السياسة تفتح الاحتمالات بينما الثورة تغلقها، لأنها صرخة حق مقابل باطل، لا أصوات متعددة مقابل باطل واحد، لهذا لا يصلح أن تمارس الثورة السياسية أو يكون لها مصالح تحميها وأناس تخاف عليهم، لأنها دائماً ستضطر للتخلي عن مبادئها وقيمها في سبيل حماية الناس والممتلكات والمصالح والأرض والأحلاف، وهذا ليس من طبيعة الثائرين، وهذه الأمور مما يُفرق صفّهم ووحدتهم ويختلفون على تعريفها وتقسيمها وأهميتها، لذلك يتحولون لقادة حرب لا لثوار.

إن استمرار وصف الناس بالثورة يعطي انطباعاً لتعالي بعضهم على بعض، وبهذا يُصنع الطغاة، ويتفرق الناس، وتسود بينهم القطيعة والعنصرية والطبقية.

إن رومانسية الأفلام والدراما والروايات التي ترسم لنا روعة الأبطال وهم يتلقون الهزائم ويقعون ضحايا في قلب المحرقة، وتُخلّد لنا وصاياهم العظيمة بينما ترمقهم أعين حبيبة جميلة، لا ينتقل أثرها للواقع إلا بمزيد من الهزائم، لأن فلسفة أن تكون الهزيمة خياراً مقابل الخلود في سجلات التاريخ والبطولة هي خيارات قاتلة للمستقبل مستهترة بالتضحيات، فالتفريط في الحياة لا يكون إلا في احتمالات النصر، لا من أجل التاريخ والشعر والأغنيات، ناهيك عن غياب الجميلات عن المشهد…، لقد أتعبنا أنفسنا ومن بعدنا بدَينٍ كبير من الدماء، وحملٍ ثقيل من الثأر، وطلبٍ لا ينتهي للقصاص، فأيُّ حرب تلك التي خاضتنا بدل أن نخوضها؟ وأي ثورة تلك التي مزقتنا بدل أن نُمزق أعداءنا بها؟ وأي حلم كبير بالحرية استحال إلى سجن واسع لا نقدر على الفكاك منه …

أخيراً، من السهل عليّ أن أمجّد الثورة، وأن أقول إنها مستمرة ولا تنتهي، وهذا ما يُعجب الناس ويُشعل الحماس في القلوب، ولكنّ نصيحة الحقّ أولى، ولا خير في حماسٍ يورث طيشاً، ولا في تأنٍ يورث ضعفاً، وإنما عقلٌ وعزم وحزمٌ وحلم …  فلا ينبغي للثورات أن تهدأ إذا لم تُعانق غاياتها، ولا ينبغي لها أن تستمر إن صارت هي الغاية. فالثورات لا تصلح لتجديد العهد، إنّما نجدد العهد على ما كانت الثورة في سبيله، والثورة التي لا تُدرك وجهتها هي رحىً تطحن أبناءها، وفوضى تعصف بهم، وتحيلهم إلى رماد في نارٍ تأكل نفسها ويتدفئ بها الآخرون، أولئك الذين يجلسون حولها ويستخدمونها دون أن تمسّهم. وأُعيدُ هنا ما أحبُّ قوله باستمرار:

“إنّما نريد تصحيح البوصلة تجاه الوطن، أن نمسك بالثورة كأداة، ولا نحيلها انتماء عقيماً واستعلاء أعمى، إننا نقاوم في سبيل الحق والحرية حتى يرضى الله لا الثورة، ونريد أن ينتصر الوطن لا الثوار، وعلى هذا نحمل الأمانة، ونبذل الدماء، ونشحذ العزيمة، ونشدّ الوثاق، ونحيي الأمل ونقتل اليأس، ونحمل الناس على الصبر والفداء”.

والسلام على من اتبع الهدى …

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط