بعد سنوات من التقييد والمنع الذي فرضته سلطات النظام السوري على الصيد في الساحل، عاد الصيادون أخيرًا إلى البحر، مستعيدين مهنتهم التي كانت لعقود مصدر رزقهم الأساسي، هذه العودة لم تكن مجرد استئناف لنشاط قديم، بل مثلت انفراجة اقتصادية لكثير من العائلات التي تعتمد على البحر لكسب قوتها.
ومع عودة الشباك لتلامس المياه، شهدت أسواق السمك انتعاشًا واضحًا، حيث عاد التنوع إلى موائد السوريين، وارتفع الطلب على الأسماك الطازجة، مما خلق حركة تجارية نشطة عكست حاجة السوق لهذا القطاع الحيوي، الذي ظل معطلاً لسنوات.
صيادو الساحل السوري بين قيود الحرب وهيمنة آل الأسد
خلال سنوات الحرب، فرض النظام السوري قيودًا مشددة على حركة صيادي الأسماك، ما أدى إلى تدمير مصدر رزق آلاف العائلات التي تعتمد على الصيد كمهنة أساسية، لم يكن الأمر يقتصر على تصاريح الصيد أو الإجراءات الأمنية المعتادة، بل تجاوز ذلك إلى اشتراط موافقات خاصة من شخصيات نافذة في عائلة الأسد، التي تسيطر على الساحل السوري وتتحكم في قطاع الصيد بشكل مباشر.
أبو حسام، أحد الصيادين من مدينة جبلة بريف اللاذقية، يروي معاناته قائلاً: “كنا بحاجة إلى إذن رسمي من آل الأسد للصيد في المياه التي عشنا على خيراتها لعقود، لم يكن الأمر متعلقًا بالأمن كما يدّعون، بل بسيطرة مطلقة على كل مورد يدرّ المال.”
هذا التقييد لم يحرم الصيادين من مصدر رزقهم فحسب، بل أدى إلى تراجع الصيد التقليدي مقابل انتشار ممارسات احتكارية لصالح جهات مرتبطة بالنظام، مما زاد من معاناة الأهالي في ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة.
عودة قوية للصيد في السواحل السورية بعد التحرير
بعد إلغاء القيود والتصاريح الأمنية التي فرضها النظام السوري لسنوات، شهدت السواحل السورية انتعاشًا كبيرًا في قطاع الصيد، حيث عاد الصيادون إلى البحر بحرية أكبر مما كان عليه الحال في السابق، هذه العودة حملت معها الكثير من الأمل للصيادين الذين عانوا من التهميش والتقييد، لكنها لم تخلُ من التحديات.
اقرأ أيضاً: مشروع لإعادة هيكلة القطاع المصرفي في سوريا بشراكة أوروبية
أبو حسام، أحد الصيادين المتضررين، يروي كيف أن الانقطاع الطويل عن الصيد أدى إلى إتلاف معداته، فضلًا عن تعرض قاربه الصغير للتدمير على يد قوات النظام، ما جعله يواجه صعوبة كبيرة في استئناف عمله، كما أن ارتفاع أسعار الوقود واللوازم الأساسية بات يشكل عائقًا آخر أمام الكثير من الصيادين، رغم الفرحة العارمة بالعودة إلى البحر واستعادة مصدر رزقهم.
ورغم هذه الصعوبات، يرى الصيادون أن إنهاء القيود الأمنية منحهم فرصة جديدة للاستقرار الاقتصادي، مع آمال بأن تتحسن الظروف بشكل أكبر في المستقبل القريب.
عشرات الأنواع من الأسماك تعود للأسواق بأسعار متفاوتة
مع استئناف عمليات الصيد ورفع القيود، شهدت الأسواق تنوعًا كبيرًا في الأسماك، حيث باتت عشرات الأنواع متوفرة مجددًا، بعضها محلي والآخر قادم من الساحل السوري، هذا التنوع ساهم في تحريك عجلة التجارة، إذ زادت المبيعات وتحسنت حركة الشراء، خاصة مع تفاوت الأسعار بحسب النوع.
أبو مصطفى، بائع سمك في مدينة أريحا جنوبي إدلب، يوضح أن الأنواع الأكثر طلبًا تشمل البوري، السردين، القريدس، والسلور، إلى جانب أصناف أخرى دخلت السوق بعد انقطاع طويل.
ويضيف: “الأسعار تختلف حسب النوع، حيث تتراوح بين 35 و50 ليرة تركية، ما جعل الأسماك متاحة لشريحة أوسع من المستهلكين مقارنة بالفترة السابقة”.
هذا التنوع في المعروض منح المستهلكين خيارات متعددة تتناسب مع إمكانياتهم، ما يعكس انتعاشًا ملحوظًا في سوق السمك بعد سنوات من التقييد والندرة.
تحديات تسويق الأسماك البحرية إلى إدلب ومساعي تحسين الجودة
يؤكد الدكتور محمد غجر، مدير فرع إدلب للمؤسسة العامة للثروة السمكية، أن انفتاح المناطق الساحلية على سوق الأسماك البحرية كان جزئيًا فقط، بسبب عدة تحديات تؤثر على تسعير الأسماك، أبرزها أجور النقل والتبريد، حيث تعاني المناطق المحررة حديثًا من غياب التيار الكهربائي، مما يزيد من تكاليف التخزين.
كما أن عدم التزام الشاحنات الناقلة للأسماك بمعايير النقل الصحيحة، نتيجة الاعتياد على الفساد في الفترة السابقة، أدى إلى تأثيرات سلبية على جودة وسعر الأسماك.
وأشار الدكتور غجر إلى أنه لا توجد حاليًا رقابة على تسعير الأسماك، بل تقتصر الرقابة على التخزين وجودة الحفظ، مما يجعل الأسعار خاضعة للعرض والطلب.
وأضاف أن الأهالي في إدلب يعتمدون بشكل رئيسي على مادة الفروج واللحم، إلى جانب الأسماك المستوردة ومزارع الأسماك المحلية، مؤكدًا أن إيصال لحوم الأسماك البحرية إلى أسواق المحافظة يمثل أولوية، نظرًا لأهميتها الغذائية.
وللتخفيف من أعباء التبريد المرتفع وأجور النقل، أوضح أن هناك توجهًا حاليًا نحو دعم استزراع أسماك المياه العذبة، وتفعيل مزارع الدولة لضمان توفير الأسماك الطازجة بأسعار مناسبة، مما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي لسكان إدلب.
عودة الصيد إلى السواحل السورية لم تكن مجرد عودة لقطاع اقتصادي حيوي، بل كانت بمثابة استرجاع لحياة كاملة كانت معلقة لسنوات بسبب القيود الأمنية والتحديات الاقتصادية، وبينما يواجه الصيادون صعوبات في استئناف أعمالهم، إلا أن التفاؤل يسيطر على المشهد، مع أمل بأن تسهم هذه العودة في تحسين أوضاعهم المعيشية، وأن تبقى مياه البحر مصدر خير ورزق بعيدًا عن قيود السياسة والاحتكار.