عودة الأمهات إلى الدراسة بعد انقطاع طويل، صارت ظاهرة لافتة في الشمال السوري، منهنَّ من دخلنَ الجامعة وحققنَ ما حلمنَ به لأعوام طويلة، ومنهنَّ من تتأهلنَ لامتحان شهادة التعليم الأساسي، وأخريات ممَّن يسعينَ إلى هدف نبيل يحققنه مهما كانت الظروف.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
صحيفة حبر التقت بعضًا من النساء اللواتي يطمحنَ أن يصلنَ دون أن يقيدهنَّ سن، ومن تلك النساء كانت السيدة الأم والجدة (حنيفة خطاب) التي بلغت من العمر ٤٤ عامًا.
تقول السيدة (حنيفة) عن بداية تفكيرها بالعودة إلى الدراسة: “حين وصلت الثاني الثانوي انقطعت عن الدراسة لظروف، لكن الحلم لم ينقطع أبدًا، كانت فكرة إكمال الدراسة تراودني باستمرار، لكن بعد ذلك تزوجت وأنجبت اطفالاً، وأصبحت أسلط كل مجهودي لتربية وتدريس أطفالي، وأعد نجاحاتهم هي نجاحاتي.”
اقرأ أيضاً: غوغل تساهم بمبلغ خيالي في سبيل مكافحة المعلومات المضللة
استمرار رغبة التعلم وأمنيات دخول الجامعة:
“لم أنقطع عن العلم ولم تنقص رغبتي وحبي للتعلم أكثر، فقد كنت أحضر دروسًا علمية على التلفاز، وأدوّن الأفكار وأحفظها، وعندما تحررت مدينة إدلب التحقت بمعهد لتحفيظ كتاب الله، ومنه ارتأيت أنني مازلت أمتلك القدرة على الحفظ والدراسة والتركيز، فانتقلت من دورة إلى أخرى وتقدمت حتى دخلت في إجازات في كتب علمية تدرس في الجامعة.”
وعن أول أمنياتها في دخول الجامعة تقول السيدة حنيفة: “بين فترة وأخرى كنت أمرُّ بجانب كلية (الحقوق والشريعة) وأتمنى لو أنني من طلابها، فقررت أن أسعى لأدخلها، شجعني زوجي وساعدني، فتقدمت إلى امتحان الشهادة الثانوية الفرع الأدبي، وكان وقتذاك قد تبقى للامتحان النهائي قرابة الشهر والنصف، درست بجد وتقدمت للامتحان ونجحت بمعدل يؤهلني لدخول معظم الجامعات في المدينة، لكنني اخترت حلمي وهرولت إليه بعد جهد وشغف، وها أنا في كلية الحقوق والشريعة.”
رحلة إكمال الدراسة ودخول الجامعة:
“انتهيت من قواعد اللغة العربية خلال تسعة أيام، كذلك أنهيت قواعد اللغة الإنكليزية خلال سبعة أيام، وعندما اقترب الامتحان كنت أسهر الليل لأجل ذاك الحلم، أنام ساعة أو اثنتين، كان زوجي يسهر معي؛ يقرأ من كتاب الله ليوقظني إن غفوت، وعلى هذا الحال بقيت حتى حان الامتحان، كنت أعود من الامتحان متفائلة بما أنجزت فابدأ بدراسة المادة التالية بحماس.”
دوافع وأهداف:
“لفتتني فكرة الفتوى التي صارت في متناول الجاهل قبل العالم في وقتنا، كنت ذات مرة أتساءل عن موضوع ما، فأصدرت لي إحداهنَّ فتوى ثم خرجت أخرى وأصدرت فتوى مختلفة، وهنا قررت أن أدرس العلم الصحيح وآخذه من ذوي الخبرات، أما هدفي فهو أن أتأهل إلى الماجستير.”
وتختم السيدة (حنيفة):” القوة هي الخطوة الأولى التي على الإنسان أن يخطوها حتى ينجح، كان نجاحي سببًا في عودة الكثير من النساء إلى الدراسة، حتى أهدتني إحداهنَّ نجاحها، أنصح نفسي وأبنائي وأخواتي وكل شاب وشابة أن يتلذذوا بطلب العلم والسعي وراءه، العلم خير ورفعة وبركة، وإن بفقده يسود الظلام، أشعر أنني خرجت إلى النور بعد سنوات من الظلام. ”
صحيفة حبر التقت أيضًا السيدة والأم ( كلثوم نوار) البالغة من العمر ٤٠ ربيعًا، التي تتأهل وتستعد لامتحان شهادة التعليم الأساسي.
تحكي السيدة (كلثوم) تجربتها بقولها: “خرجت من عالم الدراسة في الصف السادس بأمر من جدتي لأن المدارس كانت مختلطة ،وعلى حد قولهم هذا لا يليق.
على الرغم من أنني كنت متفوقة جدًا، كنت أبكي طوال اليوم على أحلامي التي ضاعت بين ليلة وضحاها، وحين بلغت من العمر 15 سنة كانت قد تمت خطبتي وتزوجت قبل سن 16، ثم رزقت بطفلة، ولم يمت حلمي أبدًا، كنت أعاود طرح الفكرة على زوجي بينما أقرأ الكثير من الكتب وأتعلم، وحين دخلت ابنتي المدرسة كنت أتابع دراستها حتى وصلت المرحلة الإعدادية، فأصبحت أدرس معها وأستفيد، وأنا أردد بداخلي سأعود حتمًا.
ثم فُوجئت بجنين يسكن أحشائي بالتزامن مع بدء الثورة، فانقطعت عن الدراسة مجددًا،
وبدأت بعد ذلك رحلات التهجير، وبدأ اليأس يتسلل إلى داخلي، كنتُ لشدة رغبتي بالأمر أنام وأحلم أنني قد درست ونجحت، كانوا يسألونني: ألا ينتهي حلمك ذاك؟
تهجَّرنا من حلب وأنا أشعر بحرقة في قلبي على حلمي، وكلما أعلنت نتائج التاسع والبكلوريا في كل سنة كنت أمضي أيامًا وأنا أبكي، أما الآن فشعرت أنه قد حان وقت السعي وراء حلمي.”
نقد المجتمع وتشجيع الزوج
وعن رأي المجتمع والمحيط تقول السيدة (كلثوم): “تعرضت للانتقاد نوعًا ما، خاصة مقولة: (شو بدك بالدراسة هلق).
وبالمقابل هنالك من شجعني وأيَّدني، لكنني أؤمن أن سنَّ الرشد هو سن الأربعين، العلم لا يتقيد بسن محدد أبدًا والأحلام لا تموت، وأخطط لدخول الفرع العلمي؛ لأن درجاتي ممتازة في المواد العلمية، وأشجع النساء اللواتي انقطعنَ عن الدراسة أن يعدنَ ويصنعنَ الفرصة بأنفسهنَّ.”
وعن مساندة زوجها تقول: “زوجي الأستاذ (عبد المجيد الجمعة) كان أول من وقف إلى جانبي وساندني وشجعني أدين له بالشكر.”
صحيفة حبر استطلعت رأي السيد (عبد المجيد الجمعة) أستاذ اللغة العربية في مسألة استكمال النساء تعليمهنَّ فقال: “يعدُّ العلم إرث الأنبياء، وله فضل لا يجهله عاقل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وكما قيل: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، فالعلم لا يقتصر على الصغار بل الكبار أحوج ما يكونون إليه، وأنا أشجع على طلب العلم وإن كان في عمر متقدم؛ لأنه أن تصل متأخرًا خير لك من ألَّا تصل أبدًا وخاصة النساء، فالمرأة المتعلمة مدرسة تربي أولادها على أكمل وجه”.
وبرسالة توجهها السيدة “كلثوم نوار” إلى النساء قالت فيها: “أثبتي ذاتك، تعلمي، تحدي العالم، ها أنا تحديت، وأنا على موعد مع تحقيق الحلم كما تحقق حلم أبو نبي الله يوسف برؤية يوسف، لذا أنتِ أيتها الأنثى لا تستهيني بنفسك، إن لم تنصفي نفسك ممَّن تنتظرين الإنصاف؟!”
تلك نماذج من نساء يطمحنَ ويسعينَ وراء أحلامهنَّ بقوة وعزيمة، هنا الأم والجدة تسعى لتبني مجتمعها وتربي جيلاً مثقفًا واعيًا، دون الالتفات إلى المنغصات والظروف، الإرادة تصنع المستحيل، والإصرار أساس الوصول.