كلما رحل شخص مؤثر في الإعلام يزداد حزننا على فقد القيم من أعمال درامية أصبحت في زمننا أشد ضرورة من أي عمل خطابي أو كتابي؛ لأننا نعيش في زمن التنافس على احتلال الصورة ومن يعتلي نسب المشاهدة وقد زاد من الأمر صعوبة صعود الكثير من الأعمال التي لا ترقى لمستوى الذوق الفني وذلك لغياب أو تغييب من يستحق هذه المرتبة في الحقيقة
لا سيما مع ازدياد صعوبة الإنتاج ومتطلباته التي جعلت من الأمر أشبه بعمل بطولي لخروج تلك الأعمال إلى النور لكنها ما إن تخرج فعليا حتى تتبوّأ مكانة عليا وتظل تحفر في ذاكرة التاريخ بصمة مميزة
تبقى في ذاكرة الأجيال دون أن تتقادم لأنها تخاطب آمال الملايين من الناس وتحكي معاناة الكثيرين بطريقة احترافية فنية
فما الذي يعيق تقديم عمل إعلامي قيمي بطريقة فنية احترافية؟
سؤال تمّ البحث عن إجابته وتبيّن أن هناك العديد من الأسباب المتداخلة مع بعضها البعض، التي شكلت نسيجًا متراكبًا كبيت العنكبوت، وكشف عن وجود أيادٍ خفية أرادت للإعلام القيمي أن يخبو ويختبئ خلف الأنظار تحقيقًا لمصالح متعددة، منها ما هو ديني ومنها ما هو اقتصادي أو اجتماعي
أعداء الإسلام كُثر والناظر في هذا الملف ربما تختلط عليه الأمور لتشتت الهدف، ربما لعدم وضوح الصورة المراد الوصول إليها فيما يطلق عليه إعلام إسلامي أو قيمي
فهل المقصود به القنوات الدينية والارتقاء بخطابها ليلامس الواقع وهموم الناس ومشكلاتهم.
أم أنها الأعمال الدرامية التي تفوق غير مسلمين فيها بأشواط بل بمراحل؟
في الحقيقة إذا أردنا أن نكون منصفين سنجد أنه عندما يتحد الفكر الإسلامي مع الإعلام من حيث أدواته الفنية والتقنية فسينتج عملاً جبارًا يحقق من النجاح والقبول الكثير، والمثال على ذلك هو فيلم (الرسالة) لمخرجه الراحل (مصطفى العقاد) ومسلسل (عمر) لمخرجه الراحل (حاتم علي)
وبالرغم مما وُجه لهذين العملين من انتقادات إلا أنهما كانا عملين خلاقين بارعين من عدة نواحٍ، ولست هنا لأعيد ما تم توجيهه من انتقادات، لكن لأجل ترسيخ مفهوم أن الإعلام الإسلامي أو القيمي بحاجة فعلا لأن تُوجد له الظروف المساندة والداعمة من كتاب ومفكرين واعلاميين، وأنه إذا تم اتخاذ كافة التدابير اللازمة لارتقائه فسينهض بالأمة بشكل أكبر وأسرع من آلاف الخطب والمؤتمرات، بل سيتعدى أثره إلى غير المسلمين أيضًا.
فالحرب التي يشنها أعداء الإسلام منذ عقود لتشويه وتعتيم المسلمين كبيرة جدًا، وتم لهم بالفعل ما أرادوه من تشويه، حتى ظهرت لدينا تيارات الحادية من الشباب المسلم ترى في هذ الدين تراجعًا وفي التمسك به عدم جدوى وانتهاء صلاحية لهذا الزمان، مع أنه لو تم الأخذ به بشكله المعتدل والسليم لامتلك القلوب والعقول، فهو الدين الذي ارتضاه الله خالق الناس للناس في كل زمان وأي مكان
ولكن كان من أسباب ضعف الإعلام الإسلامي عدم وضوح صورته كثيرًا عند الإعلاميين وضعف المنهج الإسلامي المعتدل في التطبيق، فكانت المجازفات واضحة وجلية في أعمال لم يُكتب لها القَبول عند الناس لكثرة المخالفات الشرعية فيها، مثل إدخال الفكر الليبرالي والعلماني في بعض المشاهد، وظهور النساء متبرجات إلى غير ذلك من الأمور التي لم ترسخ لمبادئ أو قيم سليمة.
ولم يكن لها هدف واضح في الارتقاء بالإعلام الملتزم الذي أصبح الآن بحاجة ماسة لأن يلامس حياة الناس ويجيب عن تساؤلاتهم ويرتقي بأفكارهم وآرائهم, كما أنه من الأسباب التي قادت تخلف الإعلام الإسلامي وتراجعه هي ندرة القيادات الإعلامية التي جمعت بين العلم في الدين والفكر المعتدل مع امتلاك أدوات الإعلام ووسائله
إضافة إلى التخطيط السليم والإدارة الفعالة للعمل الإعلامي الإسلامي، فهو بحاجة التصحيح المستمر والانتباه والحذر أكثر من غيره من الأعمال الأخرى؛ لأنه يؤسس لنهضة أمة كثُر أعداؤها والمتربصون بها من كل جانب، فكيف بجانب الإعلام الذي يُعَدُّ الآن سلاح الدول العظمى وأقوى من الرصاص في تأثيره وتوجيهه وإقناعه للمئات بل الملايين من الناس.
في الواقع نحن مازلنا نعاني من هيمنة الحكومات وتسلطها على الإعلام، لكن مع سرعة انتشار الأعمال وتنوع منتجيها أصبح بالإمكان إلى حدّ ما أخذ خطوات أولية والمحاولة ولو بالمتاح المتيسر، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المنبر الحر اليوم لأي عمل بطولي يراد له الانتشار والقبول
ولا أحبذ أبدًا التخذيل والتهوين من أمر المحاولة والإصرار؛ لأننا عشنا قرونا في انتظار معجزة تنتشل عالمنا من التسلط والاستبداد، وسنظل نعاني ما لم تتحرك فينا الهمة من جديد والإصرار الكبيرين لتحقيق ما عجز السابقون عن تحقيقه وفي الواقع اليوم العديد من الأعمال التي تعدُّ بداية خير ونهضة مرتقبة تأخذ العبر ممَّا مضى وتسير قُدمًا غير آبهة كثيرًا بالعوائق الوهمية المبنية على الخوف من المستقبل.