الائتلاف والثورة جدلية التمثيل وحقيقته

أحمد وديع العبسي

1٬412

يوم واحد يفصلنا عن الذكرى الثانية عشرة لانطلاق الثورة السورية، الثورة التي فجرت الفوضى في سورية واستثمر بها الآخرون، الثورة التي بذلت الدماء والتضحيات وغيّرت المعادلات وقلبت الموازين، ثمّ تركت كل هذا في عبث كبير، وما زالت تحاول استعادة نفسها وتكرار أخطائها وتجربة أدواتها وحصاد خيباتها مرةً بعد مرة، دون أن تصل إلى قناعة بضرورة تغيير الثورة أو تغيير عقلية الثائرين.

وإنني قد اعتدت تكرار مثل هذا الكلام في مناسبة أو بدونها، لإيماني العميق بضرورة التغيير، وبعدم جدوى استمرار الثورة كأداة للنضال والكفاح، وإني في هذه المقدمة لا أنتقد الثورة وإنّما أوصِّفها، لأن طبيعة الثورات أن تفعل ما فعلته الثورة السورية من خلق الفوضى وكركبة الواقع وخلط الأوراق، بانتظار من يستطيع الاستفادة من واقع الثورة الجديد ليعيد ترتيب البلاد على ما كانت الثورة في سبيله.

ولم نكن نعي ضرورة هذه المهمة (الترتيب) يوم بدأنا الثورة، ولم نكن جاهزين للقيام بها، ولا مؤهلين لذلك، وإنما تملكنا الحماس واستولت علينا الأحلام الكبيرة، واستفزّتنا الانتصارات السهلة من حولنا، فاعتقدنا أن كثيراً من الصراخ وقليلاً من الدماء والتضحيات والاعتصامات، مع سيل من الشجاعة والتغطيات الإعلامية تنتشر في فضاءات التواصل الاجتماعي والتلفزيونات العربية والأجنبية، ستكون حاسمة في طريق النصر، وإنّ هذه الخلطة سحريةٌ جداً، تكاد تشبه عصا موسى في قوة تأثيرها، ثمّ لما تعقدت الأمور قليلاً أضفنا بعض الرصاص والمدافع والسلاح ونفخنا بها أعداءنا فكادت الثورة أن تنتصر، لولا أن سراً آخر في تلك الخلطة لم ندركه بعد، وهو ما جعل سورية “ظاهرياً” غير بقية البلدان التي ثارت في تلك السنة.

لم نحاول فهم الأحداث والتغييرات والنكسات من حولنا، وإنما كنّا نجدد العهد في كل عام على جدوى تلك الخلطة الناقصة، عسى أن كثيراً منها سيعوّض القصور في مكوناتها، وسيجلب لنا نصراً مجيداً، يعتمد على كثرة التكرار وإرهاق العدو، ولم نلحظ أننا وحدنا من يزداد إرهاقاً، وأننا وحدنا من نحصد الهزائم في كل مرّة ونعقد المعقد من حولنا، ونخسر عناصرنا القديمة الفاعلة في تلك الخلطة، حتى أتى الموت والفناء على كثير من أجزائها، واضمحلت فاعليتها، ولكن كنّا نصرّ أنها ستنجح يوماً ما، بما تيسر …

ولا غرابة فيما يعترينا وما نتعرض له من محبطات، إذا كانت مؤسساتنا السياسية والمدنية تقدّس عقلية الثوار، وتنهج نهجهم، وتمارس طريقتهم وتحارب بأدواتهم، غير أنها متهمة بعدم الانتماء إليهم، وعدم القدرة على فهم الثورة ومجاراتها، والمساكين في هذه المؤسسات (الائتلاف وسواه) يحاولون في خيبة أن يفهموا طلاسم الثوار، وأن يتطهروا بأفعالهم، وأن ينسجوا مواقفهم اعتماداً على تطلعات الثائرين، مما أورثنا سياسة ثورية فوضوية عابثة، تشبه ما آلت إليه ثورتنا وما توصل إليه ثوارنا من العناد واللافعل والتعالي والتشبث بالشعارات والتدثّر بالتضحيات والتمسك بالمواقف العرجاء، فكان الائتلاف أكثر ما يمثل الحالة التي وصلت إليها الثورة والثوار من الهوام والضياع والتشتت.

وهذا ما حاولت التوصل إليه، فبدلاً من أن تكون السياسة واعية تمثل عقل الثوار وحصافة أدائهم وقيادة كفاحهم، تحول السياسيون إلى نشطاء ثائرين، خطباء ومتظاهرين، يريدون تطبيق الديمقراطية قبل أن يجدوا أرضها، وتطبيق العدالة قبل أن ينصبوا ميزانها، وتطبيق الشفافية قبل امتلاك أموالها، وهم في خضم المعركة يحاربون النظام وبعضهم مشغول بالانتخابات وآخرون في غرف التحقيق، والبقية هاربين من تقارير الاتهام بشراء الأسلحة وخوض المعارك خارج إطار (الشرعية الدولية) …

مشتتون أكثر مما ينبغي وأكثر من قدرتنا على الاحتمال، وكلنا نشبه بعضنا في هذا التشتت والضياع، نمثل جميع الزوايا الممكنة لهذه الفاجعة التي تجتاحنا باقتدار، فلا الثوار أو ما تبقى منهم بأفضل حالٍ من السياسيين وما تبقى منهم، وهذه المؤسسات ليست غريبة عن الناس وعن الثورة وإنما هي منتجاتها، كلنا ضحايا وكلنا تائهون، ولو استطاع أي أحدٍ أن ينجوا من هذا التمثيل والتشابه والانتماء، لكان قد غيّر في المعادلة التي تحيط بنا ولو رقماً واحداً، وما التذمر الذي يلقاه هؤلاء من هؤلاء إلا ضعفاً يعتريهم جميعاً، وخوفاً من تغيير يأتي عليهم، فالائتلاف لا يتغيّر إلا إذا تغيّرت الثورة، فما دمتم تريدونها مستمرة على ذات النهج والعبث والتعالي، فهو مستمر على ذات السوية.

إذا أراد الناس التغيير فليخلعوا عباءة الثورة لتنخلع عنهم كل الأشياء التي جاءت بها هذه العباءة الباردة. وليغيروا كل المقادير التي كانوا يعتقدون أنّها خلطة النصر، فقد استهلكت وانتهت صلاحيتها منذ زمن، ولم تعد تصلح للاستخدام الآدمي أو العالمي، فالأمرين سواء.

وليعتبروا مما حولهم من البلاد، وليعلموا أن نصر الثورات لا يكفي، وأن الأنظمة أعمق من أن يقتلعها سيل لا يعرف وجهته، وأنها قادرة على إعادة التشكل والتموضع بما يجعلها ثورة مضادة (كما في مصر) أو جزءاً من منجزات الثورة (كحال تونس) أو طرفاً في حرب لا غاية واضحةً لها ( كما في اليمن وليبيا)، ولنسأل أنفسنا أي نصرٍ نريد، وفي أي شكل من البلاد نحلم، واستناداً لتلك النتيجة علينا أن نعيد رسم طرق كفاحنا الجديدة التي لا تشبه الثورة ولا تشبهنا في ما كنّا عليه من قبل …

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط