لا أزال أكرر منذ وقت طويل بأن الثورة هي صناعة الفوضى، والثوار هم قوم المثل والتعالي والاندفاع والحماس نحو الحق ونحو فكرتهم التي شربت من دمائهم حتى اُتخمت وثمِلت. وطبيعة الثوار هذه تجعل منهم مجموعة من النبلاء الذين يضحون في سبيل أهدافهم بلا مقابل، … لكن ما أن يتطاول عليهم الزمن حتى تُخرج النفس ما فيها من عوالق البشرية والحاجات، ويتسلط على الثوار داء المستبدين في رغبتهم بالتمجيد والتحميد والسيطرة واختزال الحق، وينزلق بعضهم إلى الارتزاق باسم الثورة، ويدعي آخرون أنهم يمتلكون صكوك الثورية والوطنية يوزعونها على من يريدون ويجردون من لا يحبون …
فما زلنا ومنذ سنوات نرى كيف يتفضل الثوار الذين لم ينتصروا بعد على غيرهم من أبناء الوطن بأنهم الأحرار الذين ثاروا من أجل الحرية، وسكت غيرهم ممن صاروا يُوصمون بالعبيد، وأصبحوا طبقة ثانية في المجتمع، وصارت الثورة مقياساً للناس، فلا يستوي ثائر السنوات الأولى مع غيره ممن يقرر أن ينتمي للثوار فيما بعد، والتمييز بين الناس على أساس ثوري في كثير من الأمور لا حاجة لسردها …
والجديد مما يحدث اليوم هو رفض التعامل مع خريجي جامعات مناطق سيطرة النظام بوصفهم (مرتزقة) يبحثون عن مصالحهم ويهربون فقط من الخدمة الإلزامية في جيش النظام. علماً أن هؤلاء الخريجين كانوا أطفالاً بعمر 10 سنوات عندما قامت الثورة لا يميزون بين الحق والباطل، ولا يعرفون ماذا تعني الحرية أو العبودية، كما تبين أن الثوار أنفسهم لا يعرفون ذلك … علماً أن إيواء الثورة ومناطقها لمن لا يريد الانتساب لجيش النظام هو عملٌ يجب أن يكون في صلب أهدافها وأول أولوياتها، لأنهم بذلك يحمون الناس من عار محاربة الحق، ويضغطون على النظام بحرمانه العديد من المقاتلين …
والأكثر عنصرية واستبداداً ووقاحة ما يبرر به بعض الثوار تصرفهم هذا، برمي المسؤولية على أهالي هؤلاء الأطفال لأنهم لم يلتحقوا بالثورة، وكأن من العدالة أو مبادئ طالبي الحرية أن نأخذ الطفل بجريرة أهله (كما يفعل النظام تماماً)، أو ما يقوله البعض: إن الأولوية لأبناء هذه المناطق التي ضحت في سبيل الثورة، وكأن الثورة قامت لتجلب الحرية والعدالة فقط لمن ضحى في سبيلها وليس للناس كافة، فتفرق الثورة بين الناس وتجعلهم طبقات كما في الجاهلية فيهم الشريف والوضيع، والشريف درجات بحسب الانتماء والبذل والتضحية و …
الصورة الأخرى التي تشرح مدى وقاحة بعض الثوار هو ما جرى مؤخراً من حملة تشهير وهجوم وسباب وشتائم على الشيخ أسامة الرفاعي مفتي سورية، فرغم كل ما هو معروف عن الشيخ من مواقفه المؤيدة للثورة منذ أيامها الأولى وبلا مواربة، يتم إسقاطه من الثوار عند أول خطأ يقع فيه بالتقائه بإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وهذه الوقاحة التي أبداها الثوار تجاه الشيخ ليست فعلاً عابراً، وإنما عادة ثورية مقيتة ومرض ملازم للغالبية من الثوار تتمثل في إسقاط الرموز، وإسقاط الدين مداهنة للغرب الذي يلتحف البعض قيمه، ومهاجمة كل شيخ على أقل خطأ وكأن المشايخ أنبياء معصومون، ومهاجمة كل من لا ينتمي لنسقهم الثوري البغيض، الذي لم يعد يمثل سوى تمحورهم حول ذواتهم واعتقادهم أن الآخرين يجب أن يطوفوا بهم لأنهم بوصلة الحق والفهم والثورية، ناهيك عن المزاودة وإبداء الرأي بما يفهمون وبما لا يفهمون، عبر نفسية جوفاء وخرقاء، حيث أن العديد منهم يتمتع برغد العيش في بلدان اللجوء أو عبر العمل في المنظمات بأجور مرتفعة، ولا ينتهون عن صدع رؤوس الناس بثورتهم وتضحيتهم، ولو أن الثورة انتصرت اليوم لن يعود معظمهم إلى البلاد.
الثوار وقحون هذه حقيقة يتم تقبلها في كثير من الأحيان لأنها طبيعة التزمت وراء الغايات التي بُذلت من أجلها الدماء عند البعض، ولكن يتم تقبلها والنقاش حولها مع الثوار الحقيقين الذين ما زالوا فعلاً في البلاد يعطون من دمائهم ووقتهم ويناضلون في سبيل الحق والمثل، يناضلون من أجل قيم كريمة لجميع الناس لا لهم فحسب، يغضبون ولكن سرعان ما يهدؤون ويتفكرون ويركنون للحق. لا تجد لأنفسهم حظاً مما يفعلون، أمّا الغالبية ممن لا يجدون لذواتهم حضوراً إلا بالشتم والسباب وإعلان الثورة بمناسبة ودون مناسبة فهؤلاء وقحون وحمقى ومزاودون ومرتزقة، لا يعرفون لأحد فضلاً ولا حقاً، هؤلاء خطرون على البلاد كما النظام المستبد، لأنهم سيعيدون صناعة الاستبداد إن وصلوا للسلطة … فما ظنك بمن يمتلك فقط حساباً تافهاً على وسائل التواصل، ينتهز الفرصة ليشتم ويسب من يخالفه، ماذا يفعل لو امتلك سلطة وقوة وسطوة؟!! باختصار سيفعل ما يفعله المستبدون بوقاحة وتسلط وإجرام.
ولك في الكثير ممن وصل إلى السلطة من الثوار في العالم وفي بقعة الأرض التي نحكمها اليوم عظة وعبرة وحكاية، سترى من خلالها بوضوح كيف يصنع الثوار استبداداً جديداً ومقاصل جديدة باسم الثورة لا تختلف عما كان يقوم به المستبدون سوى بتغيّر الشعارات والناس.
والحديث يطول …