لا يسعُكَ -على مدارِ الأيامِ الماضية حتى الآن- و أنتَ تتـابـعُ و تشاهـدُ هذا التفاعلَ الكبيرَ النقيَّ لوفاةِ الشيخِ السوريّ المُعَمَّرِ البهيِّ المخلِصِ المُحسِنِ (الحاج إسماعيل بن عبد الكريم الزعيم الحمَـويّ المدنيّ [1928- 2024مـ]) عبرَ الإعلامِ الفضائيّ وَ الافتراضي في المحطات و المنصّات -الإعلامية و الاجتماعية و الثقافيّة و الدعويّة…- و حتى الحسابات و المعرِّفاتِ الشخصية على كافة تطبيقاتِ التواصل الاجتمـاعيّ و عالَم السوشيال ميديا..و هي تُثني عليه وَ تُباركُ صنيعَه، وَ تستحضرُ سيرَتَه وَ أصالتَه وَ آثارَه الطيّبةَ التي خلّفَها في مدينةِ حِبِّـه رسول الله -صلى الله عليه و آله و سلّم- حتى غدا علامةً مُشرِقةً في المدينة المنوّرة التي دُفنَ في بَقيعِهـا فجرَ الأربعاء [8 شوّال 1445هـ / 17 نيسان 2024مـ] فتلهجُ القلـوبُ -قبلَ الألسنةِ- إلى اللهِ -سبحانه- بالدعـاء له مستمطرةً رحماتِه، و غياثَ عفوِه، و كريمَ ضيافتِه و قد آبَ إلى أكرمِ الكرماء الجَوَاد -سبحـانَه-.
لا يسعُكَ و أنتَ تتـابـعُ هذا الـ ترند trend الإيمـانيّ العالميّ بلغاتِ الوكالات الإعلامية المتنوعة (العربية و الإنكليزية و الفرنسية و التركية وَ الإندونيسية و الأورديّة الباكستانية …) إلّا أنْ تقفَ بجـلالٍ و أنتَ تخاطبُ نفسَكَ:
سبحـانَ مَـن طَيّبَ ذكـرَه، و أظهـرَ للعالَـمِ فضلَـه، و أشغلَ القلـوبَ بالدعـاء لـه، فطابَ أثرُه و زكَتْ سِيرتُه و نُقشتِ في سجلاتِ تراجمِ الأعلامِ بصمتُه.
اقرأ أيضاً: وفاة اللواء المنشق ورائد الفضاء السوري محمد فارس
و كأنّنـا مع هذا الـ ترند العالميّ نتنسَّمُ عبقَ روحِ العـم « الحاج إسماعيل الزعيم » و هو يبُثُّنـا رسائلَه الناضجةَ الواعيةَ مخاطباً بها وجدانَ و فكـرَ و أصالةَ كلِّ سوريٍّ على وجهِ الخصوصِ، و كلِّ حاملِ رسالةٍ في العالَمِ أجمـع… فلنستمعْ لرسائلِ عمِّنا «أبي السِّباعِ الزعيـم» و لنتذوَّقْ معانيـه.
الرسالة الأولى: أكرمـوا أصولَكـم ففيهـا عزُّكـم
يوجه ” الحاج إسماعيل الزعيم ” رسالته الأولى ليذكِّرنا بأنَّ الإنسانَ مهما تغرّبَ و ارتحلَ و اتسعتِ المسافاتُ بينَه و بينَ وطنِه و بيئتِه و أهلِه فإنّه سيبقى مُنتسِباً إلى كلِّ ما سبق؛ سيذكرُ الناسُ أصلَه في غربتِه مهما امتدتِ في الزمانِ إقامتُه و نال من ألقاب جديدةٍ في بلاد مغتربِه فيقولون فلانٌ السوريُّ أو المصريّ أو الجزائريّ… و إنّ هذه الحقيقةَ كانتْ راسخةً في عقلي و وجداني؛ لذلك حملتُ أصلي و بيئتي و اسمَ عائلتي حملَ عزٍّ مُحافِظاً على هُويتي و أصولي أجعلُها أمامي في كل أحوالي في مغتربي فلا أسمحُ لنفسي أنْ أشوِّهَها مهما اشتدتِ الظروف فأنا السفيرُ السوريٌّ من أرضِ الشّامِ الشامة؛ و من حماة الرجولة و الشهامة؛ و من آل الزعيـم إحدى العوائل الحمويّة الأصيلة التي كان لها حضورهـا السياسي و الاقتصادي و الأكاديمي على مستوى سورية بأكملها فمنها رجلُ السياسة و الاقتصاد الأشهر (محمد سعيد الزعيم 1905 – 1963مـ) رائد صناعة النسيج السوري الذي جعلَ من مدينةِ حلبَ مرتكزاً صناعيّاً لطموحِه، و منها القائد المفكّر الشهيد (الدكتور عبد الستار الزعيم 1947 – 1979مـ) الذي ثارَ على الظالمين مغتصبي الحكم في سورية، و منها الكثير من الأكاديميين و التجّار و الوجهـاء الأعلام.
لقد كان حاضراً في فكري دائماً -و الذي يجبُ أنْ يكونَ حاضراً في فكرك أيها السوريّ- أنني في غربتي أمثِّلُ سوريةَ الشام بجلالِهـا و حضارتِها، و أمثّلُ مدينتي حماةَ بأعلامها و أصالتها، و أمثّلُ عائلتي بتاريخها و قِيمها، و أمثّلُ والديَّ الَّذينِ ربياني و زرعا فيَّ الخيرَ و العزَّ و الأدب فكنتُ بارّاً بهما إذْ جعلتُ الناسَ يدعونَ لهما و يثنون عليهما فكنتُ سبباً لدعاءِ الناسِ لهما و تدفُّقِ الأجرِ لسجلِ صحائفِهما … لذلك كنتُ عزيزاً ما مددتُ يديَ لأحدٍ ((و إذا الواحد ما بياكل حرام و صادق بعمله الله بقـوي، و منذُ وصلت المدينة المنوّرة عام [1403 هـ/1983مـ] ما تركتُ صنعةً -مهنة- و ما اشتغلت فيها.. و أريد كل الناس تشتغل و ما تمد إيدها و تنال رزقها بعزّة نفس)) -كلامه رحمه الله-.
الرسالة الثانية: ربُّـوا أنفسَكـم بالإخـلاص
و بعدَ أنْ أدركتُم عِظمَ المسؤولية المناطةِ بكم في غربتكم بإكرامِ أصولكم عليكم الآنَ أنْ توثِّقوا صِلتَكـم بالله خالقِكـم فتُخلصوا أعمالَكم كلَّها لله -سبحانه- ففيه الخيرُ الأكملُ و معه تزكو نفوسُكم و تأنسُ أرواحُكم و تأمنوا من خوفكـم؛ فالإخلاصُ هو السِّرُّ الذي يُمدُّكـم بقوةٍ روحيّةٍ و همّة ساميةٍ و عزيمةٍ مُنجِزة؛ فَلا قَبولَ بدون إخـلاص، و كلما كان الإخـلاصُ أعمقَ كانَ اليقينُ بتوفيقِ الله و معيّته و خفي تدبيره أرسخَ لأنك عندها تكونُ قد وصلتَ إلى الحقيقةِ الأنفع بأنّكَ تعملُ لله و بالله ((فأنا مثلاً هاجرتُ من بلدي مثل ما هاجر الرسول الكريم -صلى الله عليه و سلم-، و إذا ما اشتغلت لله ما بيرتاح قلبي و أنا الذي أستفيد من العمل الصالح لأني أزرع عند الله و باعتبر نفسي أني أشتغل عند الله…))
لقد أخلصَ العم “إسماعيل الزعيم” لله و صدقَه القصدَ فقد كان يعتبرُ نفسَه يعملُ عند الله -سبحانه- في عقد عملٍ دائمٍ ليسَ فيه أيُّ إجازةٍ حتى وصل مقامَ الإحسان فيستشعرُ مراقبةَ الله له في كلِّ أحوالِه، و أنّه ضيفٌ عند رسول الله لذلك عندما سأله ذلك اليوتيوبر السعوديّ: شو لذة هذا العمل الصالح الذي تقومُ به منذ أكثرَ من أربعين عاماً، و كنتَ أولَ من مدّ سفرةَ طعام في الحرم النبويّ و ما زلتَ تُقدِّم التمورَ و القهوة و الزنجبيل.. لضيوف رسول الله؟
فكان ردّه الذي خرجَ من روحه و خاطب القلوب: (( لذتُـو أنو ربِّي رضيان عليّ؛ و إذا واحد ما شرب من عندي بزعل على حالي))!! لقد رضيَ اللهُ عنه فباركَ شيبتَه و هِمّتَه و عافيتَه بل جعلَ الأرضَ بأكملها ترضى عنه و تُحبُّه و تدعو له؛ و لقد صدَق الحُبَّ لِحِبِّه رسول الله -صلى الله عليه و سلّم- فنالَ شرفَ قربِه و الدفنَ في بَقيعه مع خيرةِ أصحابِه.
الرسالة الثالثة: لا تُساوموا على مبادئكم
و نصلُ -على الترتيب- إلى رسالة “الحاج إسماعيل الزعيم” الثالثة و التي تأتي امتداداً تكامُليّاً للرسالتَينِ السابقتَين حيثُ يوجِّهُها لكلّ السوريين المغتربين و المُهجّرين عن سوريةَ الشام مؤكِّداً فيها الثباتَ على المبدأ لأنّ المبادئ لا مساومةَ فيها فإياكم و التنازلَ عنها، و إنّ القضايا الكبرى لا يستطيعُ النهوضَ بها إلّا مَن صبرَ و ثبتَ و أخلصَ سيما إذا كانت القضيةُ بحجمِ وطنٍ بأكملِه أو أمّـةٍ بأسرِها! و لولا أهلُ الثباتِ و أصحابُ المواقف و المصلحون لضاعتِ الحقوقُ و ضاعَ التفاضلُ بين الناسِ في هذه الحياةِ الدنيا فلا نستطيعُ التمييزَ بينَ أهلِ الحقِّ الخيِّرينَ و بينَ أهلِ الباطلِ المفسدين المستبدّين المُنتفعين…
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
و هذا ما حداني إلى أنْ أبقى محافِظاً على هُويتي و أصالتي فما ساومتُ على مبادئي التي نشأتُ عليها و قد مُزجت بذراتِ كياني؛ بل بقيتُ ثابتاً عليها و إن خرجتُ من بلدي مُكرهـاً و تغرّبتُ عن مدينتي الوفيّة لأكثر من أربعين سنة حتى جاءت مَنيّتي بعيداً عن مدينتي لكنني رغم ذلك بقيتُ ثابتاً على مبادئي أنقلُ أصالتي و قِيمي و قضيتي معي حيثما رحلتُ، فأُري الناسَ تربيةَ أهلي و حضارةَ بلدي التي ترعرعتُ فيها و نهلتُ من مَعين قِيمها و علومِ أعلامها. و لعلَّ مستفسراً يسألُ:ما المعينُ على ذلك؟
المعينُ و بكلمة موجزة هي القناعةُ أنّ لكلِّ شيءٍ نهايةً؛ و نهايتُنا الحقيقية هي الدار الآخرة بعدَ الموت حيث الثمرةُ و الجزاء، و ما نحنُ في هذه الحياة الدنيا إلّا كسائرٍ على طريقٍ ليبلغُ منتهاه؛ و منتهاه هو نعيمٌ مقيم و أجرٌ كريم أوِ العكس..
فإذا ما وصلتُم إلى هذه القناعةِ المقرونةِ بالرضا و دعمتُموها بالعملِ و الإخلاصِ هانت عليكم مشاقُّ الطريق بل لن تجدوا غصاضةً في مجاهدة واقعِكم نحوَ الأصوبِ و إنْ كلّفَ ذلك الغربةَ و الهجرة عن وطنكم، المهم أنْ تبقَوا ثابتين على مبادئكم ساعين إلى أهدافكم بوعي و بصيرة؛ فالحياةُ الحقيقةُ في هذه الدنيا هي أنْ تكونَ للإنسانِ قضيةٌ و هدفٌ و يجاهدَ نحوهما بالعمل تاركاً أثرَه الطيبَ النافعَ في أيّ بقعةٍ من أرضِ الله فَتِلكمُ الحياة، و ما سوى ذلك فهو عيشٌ مادي بمفهومه البَهيمي المجرّد، و إذا ما تسرّبَ الحزنُ و الألمُ إلى نفوسكم فتذكَّروا أمرَيـن:
سموَ الهدف الذي هُجرتم بسببه و تغرّبتُم له، و أنكم أحرارٌ في أرضِ الله الواسعة فلستُم في ظلامِ الظُّلمِ مفقودين أو مُغيَّبين.
لذلك أخلصوا و اعملوا و اسعَوا و قدِّموا في مكانِ وجودِكم و ديارِ غربتِكـم -على أمل العودةِ العزيزة القريبة لعمارة وطنكـم-، فأظهروا الصورةَ الأجملَ عن بلدكم و مَنبتِكـم ، و استفرغوا جُهدَكم استثماراً في أبنائكـم و أعطوهـم حقّهـم من العنايةِ و المتابعةٍ التربويـة التوعويّة؛ فلا تتركوا موقفـاً أو حادثـةً إلّا و قد أتبعتموه بالتوجيـه القِيميّ و الأخلاقيّ و الخبراتي الحياتي مع الثناء و التشجيع و التحفيز لكلِّ بادرةِ خيـرٍ و استحسانٍ تظهرُ منهم، وَ علّقوا قلوبَهم ببلدهم و حدِّثوهم عن تاريخِها و حضارتِها، و ردُّوهم إلى أصولِهم الاجتماعية لِتتمتنَ أواصرُ الرَّحِـمِ العائليّة، حدِّثوهم عن تاريخِ “سوريتِكـم” بنكهتِها الأصيلـة -الشاميّة و الحَمَويّة و الحلبيّة و الحمصيّة و الدَّيريّة و البانياسيّة و الجبلاويّة..- قبلَ أن تُسرَقَ-، و ادفعوهم للقراءة عنها لتخالط وجدانَهـم و تغدوَ بُعدَهم الأخلاقي و المَرجعيّ فيعتزوا بانتمائهم إليها و العودة لبنائهـا و صبَّ ما حصَّولُه في غربتِهم في مساقات حضارتِهـا، علّموهم أنّ البصمةَ المشرقةَ لن تُنقَشَ و تُزخرفَ إلا بالصبر و الإخلاص
قِفْ دونَ رأيكَ في الحياة مجاهـداً إنّ الحـيـاةَ عـقيـدةٌ و جهـادُ
و ختـامُ المسـك أحببتُ أنْ يكونَ مع هذه اللطيفـةِ التي اقتبستُها من وحي اسم العـمّ «أبي السِّبـاع الزعيم»، فالسِّباع مفرد سَبُع و دلالـةُ هذا الكلمـة حسب العُرفِ الاجتماعيّ الحَمَويّ و الدمشقيّ -و أعتقدُ في عُرف السوريين عموماً- معناها الشخص الذي يتحمَّلُ الأمانةَ و ينهضُ بالمسؤوليات فيُؤديها على أكملِ وجه، فيُقال له (فلان سَبع) و التي كثيراً ما يستخدمونهـا ثناءً و تشجيعاً للأطفال إذا ما أحسنوا في أداءِ عملٍ مـا أو سلوك أخلاقيّ نبيلٍ، و كأنك تستحضرُ “أبا السّباع” رجـلاً جمعَ المحامدَ كلَّها حتى صارَ زعيمَهـا. و قد جذبَني وصفُ (الدكتور مرهف سقا) له مؤكّداً ما ذهبتُ إليـه عندمـا نعاه على جدارِ صفحته على الفيس بوك فقـال -حفظه الله-:
((لفتَ نظري كثرةُ الناعينَ له على وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيّ، نعم فقد نعاه أهلُ العلمِ والفضلِ، و نعاه الشبابُ و الأصحابُ و الأقاربُ و الصفحاتُ العامّة و كثيرٌ كثيرٌ غيرُهم من مدينةِ حماةَ التي هي مسقطُ رأسِه وغيرها، ولا غروَ فهو رجلُ الشهامةِ وَ الخيرِ وَ الصَّلاحِ وَ الجُودِ وَ الإحسان، وكلُّ هذه صفاتُ مَـن يُحبُّهمُ اللهُ ورسولُه؛ و إذا أحبَّ اللهُ عبداً كتبَ له القَبولَ في الأرضِ والسماءِ.
“أبو السِّباع” لم يكن متكلِّفاً في حياتِه وَ لا في كلامِه وَ لا في طِباعِه وَ لا في جُودِه؛ بل كان على السجيّةِ والفِطرة النقيّة.
“الحاج إسماعيل الزعيم” لم يكن يسعى لمرضاةِ فلان أو علان؛ بل كانَ يسعى لمرضاةِ اللهِ و رسولِه بقلبِ مُحِـبٍّ مُتلهِّف..»
و ينهي الدكتور “سقا” نعيَه:
«شاهدتُه مرةً في المدينة المنوّرةِ و هو في ساحةِ الحرمِ النبويّ ينادي على مجموعةٍ من الناسِ قَدِمُوا زُوَّاراً -بعضهم يعرفونه ويعرِفُهم، و الأكثرُ لا يعرفُهم- يناديهـم بلهجتِه الحَمَويّة العتيقةِ وهو يفتحُ يدَيه وكأنّه يريدُ حملَهم جميعاً بينَ ذراعَيه؛ يريدُ حملَهم إلى بيتِه جميعاً، فسألتُ مَـنْ كان معي: مَن هذا الشيخ؟ فقيل لي: إنّه أبو السِّباع ومَـن لا يعرفُه؟!!
من كانت هذه سجيتُـه فكيفَ لا يُحِبُّه الناس!!!» و لمن يسأل كيف بلغَ هذا المقام؟! فأقـول له عـد إلى الأعلى لتقرأ رسائلَه و تدركَ المُراد.