الحفرة

أحمد وديع العبسي

2٬535

لا يفقد الموت هيبته، وقتل الأبرياء يبقى من أبشع أشكال الموت.

رغم كل الشرور التي تعرضنا لها، والتي شهدتها أعيننا، يبقى مشهد القتل مؤلماً جداً، يتراكض الأحياء حول حفرة بأمرٍ من جلاديهم ليسقطوا فيها جثثاً ميتة ببضع رصاصات يصوبها إلى رؤوسهم وظهروهم وأقدامهم ووجوههم قتلةٌ بلا أي آدمية، ينتمون لنفس الوطن الذي يتساقط فيه الضحايا. ببرود وتوحش يطلقون النار المرة تلو المرة، ووجوههم ضاحكة، يدخنون ويغنون، ويتفاخرون، وتتساقط الجثامين في الحفرة سقوطاً مريعاً مدوياً مؤلماً، نسقط معها في كل مرة كالفراش، فالقدر فقط من اختار لنا النجاة من مصير مشابه.

تعيد إلينا الحفرة الكثير من الذكريات المشابهة، سبق أن تمّ توقيفي على حواجز مشابهة، ولكنني لم أقتل، الكثيرون كانوا معي يومها لم يقتلوا، وآخرين قتلوا بنفس الطريقة، فقد شاهدنا جثثهم عندما تم رميها في نهر قويق في حلب، تم رميهم بالنهر في تلك المرة، لم تحرق جثثهم، وإنما محيت بالماء والأسيد، كانوا يريدونها رسالةً لنا نحن الأحياء على الضفة الأخرى من النهر والوطن.

أذكر أني شاهدت بعض الفيديوهات في أوقات مشابهة لوقت المجزرة ولكن لم تحصل عليها “الغارديان” لكي تحوّلها إلى قضية رأي عام، كان الجنود يقومون بقتل الأسرى طعناً بالسكاكين في صدورهم ووجوههم، وفي مجزرة الحولة في حمص أيضاً تم ذبح الكثير من الأطفال، ولكنهم صوروا بعد ذبحهم فلم ترقى تضحيتهم لتصبح قضية رأي عام، لم يصور أحد كيف قام الجنود بذبحهم بالسكاكين الصغيرة. والكثير الكثير من المجازر الأخرى …

الكثير من الجثث لمستها يداي تحت أنقاض البراميل، بعض الأيدي والأرجل، دماغ رجل كان ملقىً على الطريق فجرت رأسه شظية ما، لم أكن ببرود المجرمين لأقوم بتصويرها، فقد كنت جزءاً من الحفرة التي كانت تشتعل فيها النيران ويراها العالم دون أن يحرك ساكناً.

هذه البلاد التي يديرها النظام السوري حفرة كبيرة جداً، مجزرة دائمة لا يتوقف فيها الموت والذل، قبل الثورة وبعدها وإلى اليوم، في المعتقلات والسجون، على الطوابير، في أفرع الأمن، كل يوم هناك من يموت ويلقى به إلى الحفرة، يموت جوعاً وعطشاً وقهراً وقتلاً وتعذيباً، وكل يوم يتم إشعال النيران بالجثث لكي تختفي الحقيقة تماماً.

لا أحد يسأل عن رائحة اللحوم المحترقة، لا أحد يقف أمام فوهة الموت الكبيرة، لا أحد سيتذكر مجزرة التضامن طويلاً، ستنسى كما نسيت كل المجازر قبلها، سيهرول العالم للتفاوض مع الطاغية والتطبيع مع النظام كما يحدث اليوم، إنّ هذا العالم الخرب بحاجة إلى أمثال هؤلاء المجرمين أكثر من حاجته لإنصاف الضحايا الأبرياء، وأكثر من حاجته لنا نحن المهجرون الذين نقبع كالهموم على صدره، لابد من مجرم يخلصهم منّا، لا بدّ أن تتم إعادتنا إلى تلك البلاد الآمنة!! لكي يتم إلقاؤنا في هذه الحفرة الكبيرة، ولن يشعر أحدٌ بعارنا حينها، لأن النار التي سيشعلها الجنود ستأكلنا وتأكل حقنا وعذاباتنا وآلامنا، وسيختفي كل شيء … مع اختفاء دخان المحرقة.

هذا العالم حفرة كبيرة لا تختلف كثيراً عن تلك التي تحدثت عنها الغارديان، في سورية وفلسطين ومانيمار وأوكرانيا، والبوسنة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية …  الناجون منها فقط هم من يعلمون حقيقتها.

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط