الشذوذ (المثلية) إيديولوجيا ما بعد الحداثة

أحمد وديع العبسي

1٬085

لم يعد الشذوذ (المثلية) قيمة يتم تبنيها من قبل المجتمع الغربي أو الحضارة الغربية، وإنما تحولت إلى إيديولوجيا جديدة تمثل عصر ما بعد الحداثة في ذروته الثالثة، خاصة بعد إصرار هذه الحضارة على محاسبة من لا يتبنى قيم الشذوذ الجنسي. وانتقالها من التعاطف مع الشاذين إلى الإصرار على تبني الشذوذ ودعمه كخيار ومعتقد وإيمان جديد بحقوق الإنسان على حدّ تعبيرها، وليس مجرد حرية ممارسة جنسية أو اختيار جنسي معين كما كانت تدعي من قبل.

المثلية هنا لا تأتي لوحدها، وإنما تمثل ذروة الممارسات الشاذة في مثلث الإيديولوجيا الجديدة والتي تشكل النسوية والجندرة بقية عناصره الأساسية. وفي داخل هذا المثلث ومن خلاله تتشكل جميع قيم الحضارة الجديدة وممارساتها التي يتصل بها الشذوذ بشكل أو بآخر.

الطريق إلى الشذوذ، كيف وصل الغرب إلى هنا؟!

إذا كانت الليبرالية الجديدة قد مثلت عصر الحداثة بمفهوم السوق المفتوح حيث تتربع حرية البيع والشراء والحريات الاقتصادية على عرش الإيديولوجيا، فإن فلسفة ما بعد الحداثة قد مثلت أكبر تفكيك للحريات في نمو مطّرد للنسق الاقتصادي النيوليبرالي في الحياة الاجتماعية، وقد مثلت البنيوية كاتجاه في التفكير ذروة هذا النسق، والسياق الراعي للإلحاد داخله، حيث بدا كل شيء كبنية مستقلة منفصلة عن محيطها، لها علاقاتها الداخلية التي تُشكل هويتها وماهيتها وقيمتها.

إن موت الإله أو المؤلف كأحد أهم مظاهر فلسفة الإلحاد في البنيوية أسقط فلسفة البنية نفسها، لأن التفكيك سرى إلى كل أجزائها وعلاقاتها الداخلية، حتى وصل إلى أدق أجزائها في مختلف المجالات، فصارت الحروف على سبيل المثال هي التي تشكل البنى في النصوص، والمعاني تتعلق بتصورات المتلقي عن علاقات هذه الحروف ببعضها، بغض النظر عن العلاقات التي أرادها المؤلف لأن تلك العلاقات هي بنى مستقلة أخرى. وفي فوضى التفسيرات هذه وصل فلاسفة البنيوية إلى فوضى عارمة وعبثية لا يمكن الإمساك بأي جزء منها، وبالتالي صار العدم والكينونة مترادفان كما أنهما ضدان حيث لا معنى يمكن تحديده، مما جعل الأشياء بلا قيمة، وبنفس الوقت بقيمة عظيمة حسب إرادة المتلقي.

لم تصمد البنيوية طويلاً في ميدان الحياة الاجتماعية وظهرت الكثير من المدارس والتيارات للرد عليها، ولكنها على المستوى الفردي مثلت خلاصاً لكثير من الناس في عصر ما بعد الحداثة حيث شكلت الفردانية منطقة راحة وعبث ولا مسؤولية، تجعل الإنسان أكثر قدرة على التعايش مع النمط الاقتصادي الليبرالي القائم على الربح والربح فقط، والنفعية الخاصة.

في الذروة الثانية للحداثة شكلت الماورائيات التي انتجتها فلسفات ما بعد بعد الحداثة الحيز الأوسع للفلسفة والحياة الاجتماعية، حيث حاولت هذه الماورائيات أن تعيد التوازن للعالم الفوضوي الذي خلفته فترة ما بعد الحداثة، فعاد الحديث عن نظرية الأنساق والسياقات، والأبعاد الزمانية والمكانية، وأهمية العلاقات بين البنى الداخلية والخارجية للوصول إلى المعنى في دراسة الدال والمدلول. وامتدّ هذا الاتجاه إلى محاولة إيجاد تفسير لكل شيء، أو ما عَبر عنه البعض ببزوغ عصر السببية، حيث لا يمكن ترك شيء بدون سبب، وبالتالي صارت الغيبيات والتعاليم الدينية هي الهدف الأساسي للانتقاد في ظل هذه الفلسفة، وأصبحت معرفة الأسباب التي تقف وراء أي شيء حدث أو سيحدث هو الإطار العام لتكوين عقيدة جديدة للناس، ولتحديد القيم والأفعال الصحيحة والخاطئة بناء على الأسباب والدوافع التي تقف خلفها. وعند هذه المرحلة بالتحديد بدأت تتشكل الرغبة في معرفة إذا ما كانت هناك أسباب أو دوافع بيولوجية وراء الكثير من التصرفات والميول الإنسانية بطريقة مشابهة لما فعله فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي عندما قرر أن الكثير من تصرفات الإنسان وميوله تتشكل وفق دوافع نفسية واعية ولا واعية، ومعظمها يرتبط بالرغبات الجنسية.

وإذا كان الإنسان مسؤولاً بشكل ما عن دوافعه النفسية، ومن الممكن له التحكم بها أو معالجتها، فهو لا يمتلك أي إرادة تجاه الدوافع ذات المنشأ البيولوجي، لأنها متشكلة في أصل تكوينه، ولا يمكنه إزالتها أو معالجتها أو تجاوزها إلا إذا تمّ قهره والاعتداء على إنسانيته.

ولا أريد هنا أن أطيل الشرح والاستقصاء، ولكن الشذوذ تم توطينه في الحياة الاجتماعية في أجواء كهذه، وادعى المروجون للفكرة أن له أسباباً عضوية بيولوجية لا يمكن تجاوزها، فإرادة الإنسان مسلوبة تجاهها، وبالتالي لا يصح أن يكون مرضاً أو شذوذاً، بل يجب أن تحترم رغبة الناس في هذا السياق، وأطلق على الشاذين لفظة جديدة هي (المثلية).

 

الاعتراف بالشذوذ وعولمته

في مثل هذه الظروف بدأت تتسرب عدد من الدراسات التي تدعي أن وراء بعض تصرفات البشر أسباباً قد تكون بيولوجية، ومن أبرز تلك التصرفات هي الشذوذ الجنسي والرغبة في تغيير الجنس والعبور من جنس إلى آخر … وشيئاً فشيئاً تطوّر الأمر، وتم التجاوز عن عدم دقّة هذه الدراسات وبدأ العالم الغربي يوطّن التصرفات الشاذة ويرعاها حتى وصل منذ فترة ليست بالطويلة إلى تبنيها بمصطلحات جديدة كالمثلية والجندرة، ومن توطين هذه المفاهيم انتقلت الحضارة الغربية إلى عولمتها، كعادتها في عولمة كل ما هو غربي ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وانسانياً، لكن العولمة الجديدة اتخذت بعداً أشدّ قسوة في التعامل مع المخالفين، وانتقل أسلوب العولمة من استخدام الوسائل الناعمة وغير المباشرة، إلى استخدام القوة والمحاسبة والعقوبات وجميع الوسائل المباشرة. وأصبحت الحرية في مأزق عندما يتعلق الأمر بالشذوذ كخيار للناس، حيث يُحظر رفضه أو التعاطف معه فحسب، لأنه حق للإنسان كما تقول تلك الحضارة، وإنما يجب قبوله والتوعية بأهمية معرفته والدعوة إلى تجريبه واختياره، وحمايته والتعامل معه بإيجابية مطلقة.

وهنا لا بدّ من ملاحظة تناقض مهم في القيم الغربية، فعلى عكس تبرير الغرب للشذوذ الجنسي (المثلية والجندرة) بالأسباب البيولوجية، تحرض القيم الغربية المرأة على الثورة ضد تكوينها البيولوجي عندما لا تقبل (النسوية) الاعتراف بالفروق البيولوجية بين الذكر والأنثى عاملاً أساسياً في اختلاف الوظيفة الكونية لكل منهما!

استمر الشذوذ كحرية أو كقيمة مرفوضة أو متعاطف معها اجتماعياً فترة من الزمن حتى وصل اليوم ليصبح ذروة الإيديولوجيا الجديدة، حيث إنه لم يعد مجرد قيمة، بل أصبح معتقد إنساني لحضارة كاملة (أو هذا ما يدّعيه على الأقل ممثلو هذه الحضارة) تدافع عنه وتحارب بمختلف الوسائل لنشره على أنه أبرز ما يميزها في عصر الحداثة الجديد، ذروة الحريات، والانتكاسة الأكبر للبشرية. حيث أصبح ما يستطيع الإنسان الوصول إليه بواسطة الدراسات! وما تدعمه وتروج له الدعاية والإعلام على أنه حقيقة هو ما يمكن أن يشكل معتقدات الناس وفهمهم لأنفسهم وللآخر.

 

الشذوذ كمشكّل لمفاصل الإيديولوجيا

الشذوذ اليوم ليس مجرد ممارسة جنسية، بل هو مميز لإيديولوجيا كاملة شاذة في مختلف المستويات، تطغى عليها الفردانية المطلقة والمتعة والمصلحة والنفعية والمادية بصور يتسم معظمها بالشذوذ عن الحالة الإنسانية القويمة.

الاتجاه للخلاص الفردي وتدمير قيم الأسرة والمجتمع والتعلق بالمتعة واللذة وثقافة الاستهلاك الجائر على الطبيعة من حولنا هي بعض مظاهر هذا الشذوذ في ذروته التي نعيشها اليوم والتي نعاني فيها من تناقص في الموارد مقابل زيادة كبيرة في الإسراف والهدر واختفاء العدالة في توزيع الثروة وتقييم كل ما حولنا بشكل مادي في العموم، مع تضاؤل مستمر لحقيقة الثروة والمادة في الأساس وتحوّل جزء كبير منها إلى حالة افتراضية تحكمها القوة والسطوة أو جنون البشر وتفاهتهم (كما يحدث في العوالم الافتراضية ووسائل التواصل الاجتماعي وحقيقة الأموال في البنوك والحقيقة الأخرى حول أن المال في أحسن أحواله اليوم هو ورق لا يوجد ثروة يستند إليها) … وما إلى ذلك من جزئيات كثيرة يصعب تناولها بشكل مفصل.

أن يكون خيار جزء من المجتمع هو العمل وتأمين استمرار النوع البشري مقابل خيار جزء آخر من المجتمع باللهو والمتعة فقط وتصدير التفاهة والاستهلاك والهدر عبر وسائل التواصل، وأن تصبح هذه التفاهة أحد مميزات الاقتصاد الجديد ومحركات السوق هو من أبرز جوانب التشوه والشذوذ أيضاً في الحياة التي نعيشها، والتي يشكل الشذوذ الجنسي (المثلية) ذروتها.

إن المقاطع التي تنتشر كتحديات على وسائل التواصل الاجتماعي وتنضوي على هدر الغذاء والتكسير والإسراف وإيذاء النفس أحياناً هي جزء من المظاهر التي تنتمي لهذا العالم الشاذ، والذي أصبح لا يرى في الأشياء إلا قيمتها المادية، دون أن يعي من يقوم بذلك أنه بهدر الغذاء على سبيل المثال يقوم بقتل ملايين الناس الذين سيحرمون من هذا الغذاء لعدم قدرتهم على الوصول إليه بسبب استمرار غلاء ثمنه نتيجة قدرة الشواذ على شراءه وهدره في تحدٍ سخيف يقومون به أمام ملايين المتابعين الذين يشبهونهم.

 

الشذوذ كنتيجة ومحرك للإيديولوجيا الجديدة

لا شك أنّ ترويج الشذوذ ودعمه هو جزء من وصول هذا العالم لحدود التخمة في كل شيء، وينطوي على رغبة عارمة في مكان ما للحد من تكاثر الجنس البشري، لأن العلاقات المثلية علاقات غير منتجة، كما أن التفاهة في النظام الاقتصادي الجديد ووسائل الترفيه والمتعة تمثل علاقات غير منتجة أيضاً، وبالتالي فإنها جميعاً تتعاضد من أجل الوصول إلى التفاني، فناء جزء كبير من الجنس البشري، مقابل فناء جزء كبير من حراك اقتصادي وهمي تحركه الأموال التي لا قيمة لها بالمطلق، والتي تنفق مقابل ما لا قيمة له، وبالتالي هناك دورة كاملة للحياة تجري في الفراغ، وتنعدم داخله. وهي مهما لامست الدورة الأخرى المنتجة وتداخلت معها، فإنها لن تستطيع إفناءها تماماً لأنها تتصارع معها إيديولوجياً، وبالتالي ستنجح دورة الفراغ في أن تسبب كوارث في هذا العالم، تعيد إنتاجه من جديد بكلفة أقل وموارد حقيقة أكثر، ومهما تضرر الناس فإن الاقتصادات الكبرى ستنجو مرة أخرى، وستراهن على مقدرتها لإعادة التحكم بالناس من جديد.

إن حرية تحديد النوع الجنسي والميول والممارسة الجنسية أفرغت الإنسان من قيمته وهويته وقدرته على التعبير عن نفسه وعن العالم من حوله، فالمخلوق الذي لا يستطيع أن يجزم تماماً حول نوعه، وهو في حيرة دائمة حول ميوله الجنسية، وما يرافقه من قدرته على تغيير نوعه وميوله باستمرار، لن يستطيع أن يحرك أي ساكن من حوله، لأنه سيبقى مضطرباً مشغولاً طويلاً بهويته ونوعه ومن يكون! في أسئلة عبثية تم نقلها من الحيز الوجودي إلى الحيز المادي المباشر ليتم قتل أي تساؤل مبدع يهتم بوظيفة الإنسان على هذه الأرض، ولتصبح جميع التساؤلات حول نوع هذا المخلوق على الأرض، وبالتالي تسطيح تفكير الإنسان من جديد وقتل فلسفته وعمقه الذي بناه عبر ملايين السنين لإعادة تعريفه كشيء في هذا العالم بدل من أن يكون سيد هذا العالم.

 

حرية نحو الفناء

إن الحرية بشكلها اللامحدود قد اختارت طريقها للفناء، فالشذوذ هو اختيار حرية انقراض الجنس البشري، وهي نتيجة هذا التعاظم اللامنطقي لممارسة الحريات غير المنضبطة بالأديان السماوية في الحضارة الغربية. نتيجة طبيعية للتمرد على الدين ووضع الإنسان في موضع المشرّع لنفسه وحياته، فالإنسان ليس كائناً مستقلاً بذاته، وإنما كائن محكوم بدوافع وميول ومصالح، وبالتالي تم وضع الأقوياء وأصحاب المصالح الكبرى ليشرعوا لبقية البشر أنظمة حياتهم بما يضمن مصالح هذه الطبقة فقط، ويحوّل باقي النوع البشري إلى أدوات ومُستهلَكات، بعبارة أخرى تم استبدال البعد الغيبي في حياة الإنسان (الخالق) بأصحاب القوة من البشر، في إعادة لإنتاج الآلهة الأرضية كما في الحضارات القديمة، ولكن بأساليب أقل مباشرة.

إن المثلية تحاول اليوم أن تجعل الناس عبارة عن قطيع من الماشية قابل للاستهلاك يمكن تحديد وصناعة رغباته وتوجهاته عبر التحكم بغرائزه وشهواته وحاجاته الأساسية بوسائل وأساليب متنوعة هدفها فناء أكبر جزء من المجتمع البشري في سبيل إبقاء العالم بموارده القليلة نسبياً للجزء الآخر الذي يمتلك ممكنات القوة الحقيقة.

إن العمل على فرض المثلية سيتسبب في انقسام وصراع كبير داخل الحضارة الغربية ومع الحضارات الأخرى، فرغم كل الدعم للشذوذ إلا أن التيار المعارض له في الغرب لا يزال كبيراً جداً، وهو قابل للانفجار في أي لحظة ليوسع الكارثة التي وصلت إليها تلك الحضارة، وبالتالي فإن داعمي الشذوذ يعلمون أنهم اختاروا إيديولوجيا قادرة على تحقيق أهدافهم الأساسية سواء نجحوا في تعويمها وعولمتها أو اضطروا لخوض صراعات مميتة من خلالها وفي سبيل الدفاع عنها!

إن النضال ضد الشذوذ (المثلية) هو نضال في سبيل البقاء أولاً، وفي سبيل المساواة والعدالة بالدرجة الثانية، من أجل ألّا تكون حياة الناس ألعوبة بيد من يمتلكون وسائل القوة والدعاية والإعلام، ليدفعوهم في النهاية إلى الانتحار بجعل حياتهم فارغة وتافهة ولا قيمة لها، الانتحار بكافة الوسائل والتي يمثل الشذوذ أحد ممارستها الجماعية.

إنه نضال في سبيل حماية الغرب من نفسه، لأنه يراهن على فنائه أولاً، وعلى صراع كبير مع كل الحضارات الشرقية التي ما زال الدين يشكل أحد أهم مرتكزاتها الأساسية والتكوينية، والذي تتصاعد قيمته باستمرار مع كل انحدار غربي نحو المادية والإلحاد والشذوذ، وإن المراهنين على قدرتهم على إدارة الصراع القادم، ربما لن يجدوا من يقاتل في صفوفهم، فالناس هناك سيكونون ضحايا دورة الفراغ التي ستصل بالغرب إلى إحدى أسخف النهايات في تاريخ الصراعات الحضارية، حيث يسقط المقاتل ميتاً من تلقاء نفسه قبل أن تبدأ المعركة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط