تقدِّم العلمانية نفسها من خلال جمهور العلمانيين على أنها تصور لنظرية (الحياد)، حيث يقف العلمانيُّ افتراضًا على مسافة واحدة من كل الأديان والعقائد، وليس من شغلٍ آخر للعلمانية غير موقفها من الأديان، فهي نشأت لتواجه تسلط الكنيسة المسيحية في أوروبا في المقام الأول، وأي محاولة لنقل الفهم العلماني لمجالات أخرى هو عبث يريد مطمطة النظرية لتبدو كأسلوب حياة عام، وهي ليست كذلك، ففكرة الحياد أو البقاء على مسافة واحدة من الأشياء لا تصلح لتكون نمطًا للحياة ولتصور العالم، إلا إذا افترضنا أن الإنسان بإمكانه البقاء جامدًا خاملاً أبله لا يقدر على شيء.
ولكن بعيدًا عن الفرضية، يبدو أن العلمانية ورثت من التسلط الكنسي وهي تواجهه أبشع ما فيه، الأبوية والعنف والإرهاب، وتحولت من نظرية فكرية إلى دين متطرف جدًا، لا يشبه أي دين آخر سماوي أو أرضي في حجم تطرّفه والعنف الذي يمارسه، حيث يجهد منظروه أنفسهم في الإساءة والسخرية من الأديان الأخرى، وتعمل قوتها الخشنة (عندما تصل العلمانية إلى السلطة) أينما وجدت على الإساءة للدين ومحاربته وإرهاب أهله وقتلهم والحدّ من حرياتهم وطقوسهم، في اعتداء صارخ على قيم الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية التي تدعي العلمانية حمايتها.
وهذا الأمر منتشر بكثرة ابتداءً بفرنسا الموطن الأول للنظرية وتطبيقها، التي تشهد اليوم أكبر موجة لمحاربة الدين باسم الحفاظ على القيم العلمانية، مرورًا بتركيا أتاتورك، ثم بتونس زين العابدين، وغيرها من الدول التي تدَّعي العلمانية وتحارب الأديان عمومًا والإسلام على وجه الخصوص.
ولا أعرف دينًا هشًّا وقيمه متراخية وضعيفة إلى حدّ أن يحارب أديان الآخرين وقيمهم ليحافظ على قيمه ويحمي نفسه، إلا ما كان عليه كفار قريش وغيرهم من عبدة الأوثان على مرّ الحصور والحضارات، حيث أَجهد هؤلاء أنفسهم بالاعتداء على أصحاب الديانات السماوية ليحافظوا على جهلهم وقيمهم الخبيثة.
إن محاولة وسم الدولة في دستورها بالعلمانية لا تعني بحسب التجارب التطبيقية التي نعرفها إلا أن نريد أن نحدد العنف والجريمة والإرهاب كأداة تعامل مع من يخالف دين الدولة الجديد، لأن معظم العلمانيين لا يرغبون حقيقة بالديمقراطية إذا كانت ستأتي بالدين إلى السياسة، ويفضلون الاستبداد المحارب للأديان (مهما انطوى على عنف بحق المتدينين) على أي تجربة دينية، لأنهم يتوهمون أنها ستكون مستبدة باسم الدين، فهم يرغبون بتحقيق هوية العلمانية التي يفهمونها أولاً وخاصة في الشرق قبل تحقيق وسائل الحرية والديمقراطية، وهذه الهوية تعني ليس فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما محاربة الأديان وإقصائها عن كل الساحات السياسية والإدارية والاجتماعية أيضاً، والدين الإسلامي على وجه الخصوص. لأنهم يعرفون أن وجود هذا الدين في أي مفصل أو مجال في الحياة يعني تسربه لبقية المفاصل والمجالات الأخرى بسبب طبيعته الحيوية والتعايشية والتفاعلية، فهو ليس دين كهنوتي فقط، ولم تنجح إلى الآن محاولات إقصائه عن الحياة وتحويله لتجربة فردية روحية فحسب كما حدث مع المسيحية وبعض الأديان الأخرى.
إن مفهوم العلمانية في المجتمعات مفهوم واهٍ وضعيف جدًا، لدرجة أنه لا يقوم إلا بالقوة، فحذارِ من استبداد جديد يحمل زركشة جديدة، كالتي كان يتغنى بها البعث باسم الحرية والحياد والعدالة الزائفة، بينما تصبح الدولة سيفًا مسلطًا على رقاب شعبها، وتحرمهم من أغلى ما يملكونه ويعيشون من أجله، وهي عقائدهم التي تحيا بها أرواحهم ويفسرون من خلالها غاية وجودهم.
لأن كل مبادئ العلمانية تعني بشكل أو بآخر الحدّ من حريات الأديان وممارستها والسيطرة على أوقافها، وتحديد شكل العلاقات في البنية الاجتماعية بعيدًا عن الدين في مسائل جوهرية كالزواج والطلاق والميراث والأحوال الشخصية عمومًا، وكل ذلك بالعنف والقوة والإرهاب، من أجل شرذمة صغيرة مستبدة تريد أن تأتي بالعلمانية بقوة خارجية مقابل الشعب كلّه أو أعظمه …
والسلام.