الليلة الأخيرة في حلب

أحمد وديع العبسي

0 1٬109

في الصباح خرجنا باتجاه المعبر، ولكن هذه المرة ببطء، فلم نكن نستعجل أي شيء، لم يمضِ وقت طويل حتى أتت دفعة كبيرة من الباصات، صعدنا وصعد معنا أناس كثيرون، وانتظر البقية وصول دفعة أخرى، ولكن الباصات التي صعد إليها الناس لم تتحرك …

خيم الليل على الأطلال المتهالكة والوجوه المتعبة، ونحن ننتظر داخل الباصات، هذه الليلة باردة جداً.. ثلاثةُ أيام ونحن هنا في الشوارع، البيوت التي تبقت واقفة لا تكفي للجميع، ننتظر الخروج من حلب، مشاعرنا ساكنةٌ تماماً، لا شوق يتحرك الآن، ننظر الأحجارَ والدمار والأطلال بعين الرثاء التي تبكينا نحن، تبكي ما وصلنا إليه من فاقة الخسارة، وعظم المصاب، وعجز الموت.

نزلت من الباص، تمشيت في ما تبقى من الطريق وحدي، ألملم حيرتي، فجاءتي، أوهامي بالحزن، ذكرياتي الخائبة، وأحاول تمثيل أدوار الوداع كما كنت أشاهدها في السينما، أنظر إلى البعيد، وأطلق تنهيدةً عميقة، عميقة جداً كما يفعل الأبطال في المشاهد الختامية.

ها هي حلب التي كنا نحلم باستعادتها كاملة .. ما زلنا نحلم بها كالأطفال، مازالت تراودنا كحبيبة في ثوب زفافها الأحمر الذي صبغته دماؤنا، وككابوس نهرب فيه بين حاراتها من قبضة عنصر الأمن الذي يلاحق حتى أحلامنا البائسة.

الخوف والبرد يملآن المكان، لا يقطعهما سوى بكاء الأطفال جوعاً وعطشاً، فلا طعام ولا شراب عند نقطة الخروج.

ليلة حلب هذه حالكة السواد .. لا تفاصيل لها سوى أطلال مدمرة جداً. أكوام من الحجارة، بقايا آلات الحرب التي ملأت المكان، الشظايا المتناثرة حولنا، الناس المتجمعون على شكل حلقات حول نارٍ يشعلونها من آخر ما حملوه معهم من هذه المدينة، يحرقون أوراقهم وملابسهم وذكرياتهم ليحظوا بشيء من الدفء في هذا البرد الجنوني، وكأنّ حمل الذكريات محرم في هذا اليوم، رأيتُهم يضعون حقائبهم كاملة في النار دون أن تُفتح من أجل قليلٍ من الدفءِ يحمي النساء والأطفال من الموت تحت وطأة الصقيع.

لا تستطيع النار تدفئة فراقنا، خواء القلوب في اللحظات الأخيرة بعد عناق ست سنوات باردٌ جداً، العشاق الحقيقيون قد التحفوا تراب حلب ولم يقفوا على أبواب المغادرة مثلنا، نرمق قبورهم في ليلتنا الأخيرة بحسدٍ وشوق ومشاعر خاوية لا نعرف تفسيرها.

الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، بدأت الأرض تتجمد، البرد قارص هنا، أنا الرجل الذي يقترب من ثلاثينيات عمره أكاد أتجمد من البرد، فقدت الإحساس بوجهي وأطرافي، أنفخ في يدي، وأحكّهما ببنطالي لكي أشعر أن الدم ما زال يتدفق إليهما، لا أجد ما أدفئ به نفسي، أشدّ عزيمتي كلما سمعت بكاء طفل أو أنين امرأة، آه .. بكاء الأطفال وصوت صراخهم عذاب من نوع خاص، يخبرك كم أنت عاجز.

أحاول استحضار مشهد المعتقلين في الزنازين الباردة، أسناني تصطك ببعضها، صور الذكريات ترتجف في مخيلتي المتعبة .. أتجول بين الناس داعياً الله أن ينهي هذه المأساة سريعاً فلم يعد بمقدورنا الاحتمال.

منذ فترة طويلة لم أدخل مسجداً في حلب .. وكأن المصلى كان يدفعني بعيداً عنه .. فالصلوات لا تقام في ساعات الموت، المرّة الوحيدة التي اشتهيت فيها أن أدخل مسجداً لأقيم صلاتي الأخيرة كانت منذ أربعة أيام، بعد نزوحنا إلى ما وراء الجسر، قُصف المسجد يومها. وكأن الصلاة الأخيرة شيءٌ غير ممكن الحدوث، حتى المساجد هنا كانت تكره هذا النوع من الوداع.

استلقيت على الأرض مستسلماً، حلم الموت يراودني في هذه الليلة، أحاول البكاء ولكني لا أستطيع، الدموع متجمدة تماماً كما المشاعر وكأن البرد هو أكثر ما يناسب هذه اللحظات الموجعة حيث يتجمد كل شيء.

الخواء يملأ الروح، الذكريات القاسية، مشاهد الموت والدمار، صور الأصدقاء، حنين الأمهات، وصايا الذين ترجلوا، تخيل آخر لحظات الرحيل، والبرد، البرد الذي لا يرحم أبداً، كأنه يريد إكمال العذابات في ليلتنا الأخيرة.

حدث كل ما يمكن أن يحتمله الأحياء على هذه الأرض .. وها نحن ذا، لم يتبق لدينا ما يمكن أن نخسره سوى تلك الأطلال التي آمنا بها طويلاً والتي لا تكاد تظهر من شدة الظلام، أصبح الموت اعتيادياً جداً أمام احتمال الخسارة الكبرى، .. لكننا نريد أن نخرج، ولا نعرف لماذا؟

لأوّل مرة في حياتي أسترجع الموت و رهبته وهيبته دون أن أحفل بالثواب والعقاب والقيامة، رغم أنه مشهدٌ مخيفٌ جداً بالنسبة إليّ فيما مضى .. حتى الموت في أيام حلب الأخيرة أصبح ترفاً لا يستطيعه الجميع، أن تموت كان يعني أنك شخص محظوظ جداً أمام أكوام المصابين المكدسين فوق بعضهم.

أشعرُ بمرارة الخذلان والبرد الشديد، ولأول مرة شعرت أني أطلب الموت بصدق دون أن آبه له، وأنا على مثل اليقين بأنه لن يحدث. وكأن الحياة مصرةٌ على منحي ذلك الشعور بالضعف والخيبة … وربما فرصة جديدة لاستعادة أشياء ما زلت أفقدها، لن يكون آخرها مدينتي التي أحب، (ابتسمتُ للتفاؤل الأخير) …

لم أنم يومها أبداً، والكثيرون هنا لم يقدروا على النوم ولا حتى لدقائق قصيرة، فالباصات اللعينة متوقفة، ولا نعرف متى يمكن ان يُسمح لها بالمسير.

صليت الفجر وأنا ارتجف، لا أذكر الآيات التي قرأتها، كنت أتجمد برداً وأتأتئ فحسب.

أشرقت الشمس لتضيء المشهد الأخير، بدا وكأن الناس قد تضاعفت أعدادهم خلال الليلة الماضية، الآلاف محشورون في حوالي كيلومتر مربع واحد، الباصات مصطفّة دون حراك، الأوجه شاحبة، بكاء الأطفال يتعالى أكثر بسبب العطش والجوع، دخان الحرائق التي التهمت كل شيء من أجل التدفئة يعمُّ المكان كضباب أسود كثيف، رائحة البلاستك والمطاط والجلود المحترقة، (الشحاوير) التي تملأ الوجوه المتحلقة حول النار، بدا كلّ شيء على حافة الموت، كان نزعاً أخيراً، وسكراتٍ قاسية، لقد استخرجوا من المدينة روحها، وكفنوها في دمارها المهيب.

الساعة الحادية عشرة ظهراً، تحركت الباصات أخيراً لتقلنا للضفة الأخرى، نظرت خلال النافذة وأنا خافض الرأس إلى الشرفات التي تطل علينا بعيون باكية، وأخرى تتفرج بذهول، وثالثة ضاحكة، تسخر من هزيمتنا، ونحن نُهجر من المدينة التي هزمتنا الحرب فيها، وأخذت منا كل شيء.

رأيتُ عيون الأطفال من الشرفات التي مررنا بجانبها تحدق بنا باندهاش، يلوّحون لنا بأيديهم فرحين وهم لا يعرفون من نحن ولا يعرفون إلى أين نتجه، رأيت إحدى الأمهات تعنف أطفالها الذين يلوحون، وتغلق باب شرفتها، ربما خوفاً عليهم من أعين الجنود، وربما لأننا لا نستحق التحية.

عندما وصلنا إلى الضفة الأخرى نزل بنا كل شيء كالصاعقة، لقد حدث فعلاً، نحن خارج حلب، صارت المدينة التي شاركتنا أجمل وأقسى لحظات حياتنا بعيدة جداً، انفجرنا بالبكاء وكأننا لم نعرف أننا سنهجر، وكأن كل شيء حدث فجأة، صرخنا بأننا نريد العودة، أرهقنا أنفسنا بالدموع المليئة بقهر صدورنا التي تغلي حقداً وكراهية، ولا عزاء ..

لم يطل الأمر كثيراً، نصف ساعة فقط من البكاء والدموع، بدأنا بعدها بالتفرق، هكذا هي الأحزان، قصيرة جداً، تترك شيئاً من الحسرة في القلوب سرعان ما يذوي تحت وقع سياط الحياة القاسية، الحياة ستستمر، وهي لا ترحم أبداً، ابتداءً من هذا اليوم نحن مهجرون .. نازحون .. لاجئون .. لا وطن لنا ولا بيت ولا مأوى، سننضم إلى الملايين الذين سبقونا في رحلة التشرد الكبيرة، ومن يهتم!! العجلة تدور وتطحن كل ما يمكن أن نفكر به، ولكنها ستترك لنا ما نشقى ونحن نلهث وراءه .. الخبز والموت …

ذهب بعضنا بعيداً جداً عن حلب بحيث لا يراها مرةً أخرى، وآخرون افترشوا الأرض حول أسوارها، ينظرون إليها كل يوم، ويقسمون على استعادتها. وناس مثلي كتبوها في مذكراتهم وراحوا يحكونها لكلِّ من يصادفونه.

ودعنا في حلب حوالي أربعة آلاف شهيد سقطوا منذ حصارها، وأكثر من مئةٍ وخمسين ألفاً آخرين رووا تراب حلب بدمائهم منذ أن خرجنا في هذه الثورة. واليوم نودع أنفسنا .. نلوح لها .. نرمقها بنظرات أخيرة .. لم نعد كما كنا من قبل .. لقد اختلف كل شيء.

خسرنا أندلسنا مرةً أخرى، في ليلةٍ ما، حدث هذا، لم نملك إلا الاستسلام يومها، مرّ وقت طويل على تلك الليلة، نسي العالم المذبحة، نُسيت حلب وكأنها لم تكن، ولكن أفئدة من كانوا فيها لا زالت تطوف كل حاراتها العتيقة، تقف في محاريبها، تستنشق هواءها على بعد أميال من ترابها المعطر بدم الشهداء، وتحلم بالعودة كحقٍ يستحيل على الفناء.

 

الذكريات لا تصدأ ولا تموت .. إنها حقائق مؤجلة، أولئك الذين يتخلون عن ذكرياتهم، سيدركون أنهم يتخلون عن مستقبلهم، وسيبقون مجرد أمثلة.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط