“المجتمع المدني” السذاجة الواعية في لعبة السياسة الدولية

أحمد وديع العبسي

3٬316

منذ وقت مبكر نسبياً، تم التركيز على المجتمع المدني من أجل أن يكون أحد الحوامل السياسية في المسألة السورية، وتمّ إحداث مجموعة منصات موازية لهذا المجتمع في المنصات السياسية المباشرة، وكانت العناوين التي يستخدمها هذا المجتمع هي عناوين إنسانية تسجدي الحياد السياسي، وعدم التدخل في اللعبة إلا ضمن احتياجات الناس وتحقيق المنفعة للمجتمع، تلك المنفعة التي توصف بالمساعدة الإنسانية التي يجب تقديمها على كل ما يتعلق بالصراع السياسي.

ولم يكن يخفى على أحد أن هذا الدور مغرق في السياسة حتى النخاع، ولا اعتقد أن أحداً من الناشطين في المجتمع المدني كان يجهل هذه الحقيقة، ولكنه كان يتجاهلها إرضاءً للمانحين، ومحاولةً للانسجام مع متطلبات الخطاب الدولي، للحفاظ على المكتسبات الشخصية والعامة!!

فتمّ تغييب الوعي بالدور السياسي بسذاجة مفتعلة متفق عليها ضمنياً بين الجميع (المانح والمجتمع المدني والمجتمع الدولي واللاعبين السياسيين) إقراراً بشروط اللعبة وتماشياً مع ضروراتها، حتى أصبحت مع الوقت (تطبّعاً مكتسباً) عند هذه الفئات، فبمقدار إدراكهم لمقتضيات اللعبة هم متورطون بالقناعة الصادقة بدورهم المحايد والبعيد عن السياسة فيما يقومون به من أعمال، وبما يتحضرون له من مهام تحتاج هذا الانسجام مع السياق الدولي.

اليوم في جميع الجغرافيات السورية هناك مجتمع مدني تم ترويضه أو تدريبه على مفردات الخطاب المطلوبة للمرحلة القادمة والذي سيكون حاملاً أساسياً لأي حل سياسي مرتقب بدعوى انقاذ الناس – وهم محقّون في ذلك – هذا المجتمع يتكلم نفس اللغة ويمتلك القدرة على التفاهم مع المصالح الدولية ومصالح الداعمين، ولكن أفراد هذا المجتمع للأسف لا يمتلكون القدرة على التفاهم مع بعضهم كأبناء وطن واحد، وهنا تكمن الكارثة. فاللغة المشتركة التي يتم تبنيها في الخطاب هي لغة المصالح الخارجية لا لغة أبناء الوطن، وهي لغة تمرير الأجندات التي يوافق عليها المانحون لا لغة تمرير الشراكة الوطنية في بلد منهك ويحتاج إلى حل، اللغة المشتركة ليست لغة اتفاق بين أبناء البلد على ضرورة حلحلة المشكلات وإعادة بناء الوطن، وإنما لغة اتفاق على ضرورة الانسجام مع الإرادة الدولية للوصول إلى الخلاص السلبي (دفن المشكلة لا حلها)

من عمل في اللجنة الدستورية من “المجتمع المدني” يعرف جيداً أنه لا مجتمع مدني ولا هم يحزنون، ويعرف أن هذا المجتمع في التجربة السياسية المباشرة، ظهر على حقيقته كأداة سياسية، إما بيد أطراف النزاع أو بيد المجتمع الدولي أو بيد الدول الإقليمية، وبدون هذا التوصيف لن يكون لهذا المجتمع دور إلا بالتصفيق أو تسجيل البيانات والمواقف، ومنذ اللحظة الأولى ظهرت هذه الانقسامات جلية وواضحة، مع ذلك فخارج العمل السياسي المباشر الذي أُقحم فيه المجتمع المدني في مساحات أخرى كبروكسل وبازل وغيرها … لا يزال العاملون في هذا المجتمع يفضلون لغة الحياد السياسي، ويكملون دورهم الساذج في اللعبة دون اعتراض منتظرين دورهم المباشر يوماً ما …

لا بدّ أن يتحرك المجتمع المدني للعب دور وطني وليس دور وسيط بين السياق الدولي والناس لإرضائهم بالممكن كما تفعل السياسية في ممارستها التقليدية، لكن الخروج إلى هذا الدور الجديد لن يكون أمراً سهلاً فقد تمّ تطويع المساحات المدنية وبرمجتها بشكل جيد. لذلك لا يتوقع أن ينحرف المسار كثيراً عما خطط له مسبقاً.

بالعموم أنا لا أبحث عن حل من خلال هذه المقالة وإنما أبحث عن محاولة، فبدلاً من التمادي في ترسيخ هذه السذاجة ومتابعة استخدام مصطلحاتها والتنافس من أجل تحقيق أجندات المانحين بإخلاص، ربما يمكننا محاولة تمرير بعض الأجندات الوطنية التي تمثل إرادة الناس وطموحاتهم وتعيد بناء ترابطهم وتعيد صلتهم بوطنهم، وربما تعيد ثقتهم بهذا الوطن بعد فترة نرجو أن لا تكون طويلة.

يجب أن نتوقف مبدئياً عن أي تصور للمجتمع المدني لا يجعله تصوراً سياسياً محضاً، وعلينا محاولة تطبيع هذه الفكرة والوعي بها كردة فعل على محاولتنا تجاهلها في المرحلة السابقة، لكي نستطيع أن نعمل مع بعضنا بوضوح ودون مساحيق تجميلية ونسأل عن مصالح الناس في خضم الأعمال التي نقوم بتنفيذها والتي تمثل مصالح المانحين فحسب، ونكون طرفاً (مهما كان صغيراً ) في لعبة السياسة القادمة من الخارج، أفضل من أن نرضى بواقعنا كأداة فحسب، أداة تعي أنها للاستهلاك وترضى بذلك دون أي محاولة للتغيير.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط