النّبّاشون… الصورة الثانية

صهيب طلال إنطكلي

2٬670

الصورة التي رأيتُها اليوم مختلفةٌ عن كلّ ألبومِ الصّور؛ وحزينةٌ بحدّ ذاتِها وتبعثُ في الروح آلامًا وآهاتٍ؛ وفي العقل تساؤلات وأفكارًا مؤلمةً وغضبًا شعوريًّا عميقًا؛ يبقى هناك في زوايا الروح.
في شارع الفيلات الشّهير وسط عفرين لمحتُ الرّجلَ؛ أستطيع أن أقرأ ملامحه على الرغم مِن الستار الثخين الّذي يُخفي به وجهه؛ لك أن تتخيّل معي عزيزي القارئ ملامحَ الرجل تحت الدّثار؛ لابد أنّ وجهَه جميلٌ وهكذا هم كلّ البشرِ خلافًا لما نقيّم به نحن الجَمال؛ والدليل على جماله وجمالنا أنّ الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنّه خلقَنا في أحسنِ تقويم.

كان الرجل يمشي على المنصّف بين الطريقَينِ في الشارع العريض؛ يحملُ فوق رأسه مصباحًا يشبه تمامًا ذلك المصباح الذّي يضعه عاملُ المنجم وهو يبحث في الأعماقِ عن الذّهب؛ كلا الرجلين؛ بطل قصّتي وعاملُ منجم الذّهب يشتركان في البحث؛ ولكن أحدهما يبحث في أعماق المناجم عن الذهب؛ والآخر يبحثُ في أعماق حاويات القمامة عن أيّ شيءٍ؛ وعندما يجده يضعه في كيسِ خيشٍ يحمله على ظهره؛ وعندما تكثر الأشياء المرمية التافهة في كيسه يبيعها بثمنٍ يُشبِهها بخسٍ جدًّا؛ لا يُساوي شيئًا أبدًا أمام ماء وجهه التائه بين الحاويات.

اقرأ أيضاً فرنسا: نظام الأسد لم يستحق العودة للجامعة العربية

لم يكن هذا الرجل استثنائًا أو حالةً خاصّة فمثلُه نبّاشونَ كثرٌ يجوبونَ الحاويات بحثًا عن رزقٍ بطعمٍ مُرٍّ جدًا، قال لي أحدُ النبّاشين ويبدو وللأسف أنّه نال حظًا من التّعلّم: (عندما يأوي الناسُ إلى فراشهم، أذهب إلى سلال المُهملات المنتشرة في الشوارع بحثاً عن رزقي، أجوب الطّرقات ليلاً وأحمل أكياساً ثقيلة على ظهري، في الليل يرتاح الناس، ويتعب آخرون).

وللحقيقةً ليست اللقطة السابقة هي التي آلمتني فحسب، ففي الصّورة لقطةٌ أخرى أشدُّ إيلامًا وأبقى؛ طفلةٌ صغيرة تتبعُ أباها مِن حاويةٍ إلى حاوية؛ وكلّما مدّ رأسه أضاءتِ القمامةُ فقفزتْ الطفلةُ إلى الحاوية في غريزة طفولية للاكتشاف والفضول؛ فلا ترى إلى قمامة؛ لا شيءَ في الحاوية إلا القمامة؛ يرفع أبوها رأسه فتُظلمُ الحاوية مجدّدًا؛ تترك الطفلة الحافّة وتهبط؛ ربما تسهو قليلًا مع سيّارة عابرة تمرّ أمامها؛ يرتفع من داخلها صوتُ أمّ كلثوم (أنا وأنت ظلمنا الحُب) ورغم كلّ هذا الظّلم الّذي تتعرض له الطّفلة إلا أنها لا تعرف معنى الأغنية العابرة؛ تلتفت لترى أباها وقد وصل إلى الحاوية التالية؛ تركض سريعًا وتقفز داخل حاوية جديدة؛ ولكن يال خيبة الرّوحِ الطّفلة فلا شيء هنا إلّا القمامة مجدّدًا، كَثيرةٌ للأسف ظاهرةُ جمعِ بقايا النفايات من الحاويات لبيعها، فلا تكاد تخلو مدينة أو بلدةٌ او أيّ تجمعٍ سكنيٍّ من هذه (المِهنة) التي تمتهنُ كرامةَ الإنسان، قليلٌ أولئك الذين يلتفتون إلى هؤلاء المَنسيين؛ يقولون أنّ المسؤولين مشغولون بقضايا كبيرة، ولا وقت لديهم لبحث آلامِ الناس وفقرهم الذي ألجأهم إلى أحقر الأعمال، ويقولون إن الكثير من الأغنياء كذلكَ لا يرمون القمامة في الحاويات؛ هناك عاملٌ خاصّ لديهم يحمل قمامتهم؛ فكيف لأعيُنِهم أن تلتقط هذه الصّور!

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط