يقول محمود درويش : “يقول لي جدي أن حيفا أجمل مدن العالم، أنا لم أرَ حيفا و جدي لم يرى مدن العالم”.
سوريا العظيمة المبتدأ و الخبر، سوريا العظيمة البداية و النهاية لانتمائي و هويتي، لن أذكر مدينتي الصغيرة، و لا أنني ابنة القلمون الشرقي هذا الريف الدمشقي العريق، لأنني أبغض المناطقية والإقليمية والقولبة وحصر الفرد العربي في محيط مدينة واحدة. لكنني! لا أستطيع إلا التعصب لبلدي سوريا، سوريا الانتماء، والانتماء هو الانتماء لتراب الوطن ولكل مدينة من مدنه، و لكل قرية من قراه، لكل زقاق من زقاقه كان لنا معه حكاية، إلى دمشق العظيمة العاصمة المتربعة على عرش قاسيون، والمفترشة عرش قلبي، التي قضيت فيها أجمل أيام شبابي و دراستي. رغم زيارتي لأهم المدن في أوروبا و أجملها … لكن! قلبي هناك حيث تعرفت إلى ذاتي الأولى، ووجداني الأول، الذي نمت و ترعرعت فيه أجمل و أعرق مدن الشرق قاطبة. و شعبها العظيم الجبار القادر على الحياة، القادر على الابداع بعيدا عن الركون لحالة الانكسار، رغم الألم اثبت للعالم أجمع أنه قادر على الابداع، و قادر على النهوض.
بلادنا العربية و منذ آلاف السنين واقعة فوق فوهة بركان متأجج و متكرر بالمعنى الحضاري و الاستراتيجي، فهي محرقة. الأمر الذي أدى بنا أن نكون في أدنى درجات السلم . يستوقفني هنا سؤال مرير لطالما يلحّ على ذاكرتي المتعبة، التي لا تأبى عدستها التقاط و اختزان الأسئلة العصية عن الإجابة؟! إذا كان هذا الجيل جيل الثورة، الجيل القادم من مجتمع حرب سيقول قوله، و يثبت نفسه في يوم ما. هل سيعذرنا رغم ثقافتنا و كتابتنا طيلة إحدى عشر عاما، أننا لم نستطع أن نقدم لهم حلا؟ هل سيحيلنا إلى رداءة هذا الزمن والعجز وقلة الحيلة؟ أم إلى ذواتنا و نرجسيتنا، باهتمامنا بذواتنا و الالتفات إلى التفكير بهمومنا دوناً عنه؟!
إذا كان جيلنا قد تربى على العروبة و حبّ الأرض وعشق التاريخ و الجغرافيا، بل و التشبث بالجذور الأولى بالانتماء و الهوية، الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا. و ربما أعطيت له مساحة من التفكير لا التعبير، و لو كان ذلك بالحدود الدنيا، وخاصة أن بيئتنا السورية كانت قادرة على الاستقطاب العربي. الآن هذا الجيل جيل الحرب و الثورة هل يؤمن بفكرة الوطن؟ هل يؤمن بفكرة العروبة؟ هل يؤمن بتوحدنا و بالروابط التي تجمعنا كعرب؟! ترى إن كانت الإجابة لا! لماذا كفر بها؟
وإذا وضعنا هذا الجيل بل و لغته كذلك نصب أعيننا كيف نجيب؟ و بماذا نجيب؟ و على ذاكرتي التوقف أمام سؤال أعم و أشمل هل هم مثقفين كنحن؟ ليسمحوا لذهنهم بطرح هذه الأسئلة؟! وهل سيصنع الواقع اللامعقول، من جيل الحرب استثناء على الساحة الثقافية؟ إذا لم يصنع لذاته شيئا جيداً، هل يستطع أن يجد لها مكانا مختلفا يليق بتميزه؟ لأن التميز هو الذي يحدث الفرق لا الشهرة!
هل سيعود هذا الجيل من جديد ليقف على ساق واحد بإرادته كما كنا نفعل، ليخرج من رحم الألم إلى رحم الإبداع؟ هل هو مدرك حقا لقيمة المعرفة؟ كأساس لتطوير الذات الفرديّة؟ و إذا كان هذا الزمن زمن العقل و الفهم، لماذا يحاربون و يكفرون العقل؟ لماذا هم مبدعون بنشر و توجيه سياسة البذاءة إلى هذا الحد؟ هل انتصر زمن الرداءة على الثقافة؟ هل غلبنا حقا و غلب هذا الجيل المسكين؟! الذي لم تتوفر له أبسط سبل العيش! ليفكر و يبدع، بل! و من المؤسف للغاية انه عاش زمن الفوضى السياسية و الخراب الثقافي، الذي أدى إلى الادراك المتدني لأهمية و قيمة الشعوب، و القيمة النبيلة للإنسان، بل! و تفضيل الرداءة و الخسّة على كل قيم الثقافة و المعرفة. و كما يقول سعدالله ونوس” غلبنا الأهل و العدو و الزمان”.
يؤرقني ما وصل إليه حال هذا الجيل، هذا الزمان السقيم و الموحل كما قال عنه سعدالله ونوس: “كان في حينها على الأقل مسموح لنا أن نتوهم، أن نحلم مسموح، و لكن! في الواقع الموحل و الزمن السقيم قد يكون انجاز الممكن هو الحلم!”. الآن في حصصهم المدرسية لا تدرك ذاكرتهم سوى اسم الزعيم، وتقديس الصنم، و ثقافة الزعيم، وفي الفسحة(الاستراحة)، يرددون النشيد الوطني، دون إدراك المعنى، لأن ما يشغل ذاكراتهم ثقافة الزعيم التي فرضت عليهم.
يحلمون برسم قارب للهجرة، دون أن يفعلوا، خوفا من مراقبة الزعيم. مقاربة بل مقارنة بسيطة بين ذاكراتنا و ذاكرتهم، لم يتوقف جيلنا عن نسيان ما كان يشدو به عبد الوهاب وطني حبيبي، وطني الأكبر، يوم ورا يوم أمجاده بتكبر …. و هذا كان أهم انجازاتنا “الوطن”، وحب الوطن، الانتماء، العروبة، رغم فرض ثقافة الزعيم في حينه. لكن! حين كان و لا يزال الوطن و حب الوطن و الانتماء للهوية، الأرض، التاريخ و اللغة الخ .. يمثل سعادتنا القصوى،
أما سعادتهم القصوى الحالية الوصول إلى رغيف الخبز، الحصول على بطانية تدفئ جسدهم المتعب من ثقل البرد في شتاء المخيم القارس. لقد أدركنا بذكاء حاد كم مهم ما يسطره الحبر الأسود، لكنهم ادركوا بألمهم، وجع ما يرسمه الحبر الأحمر أكثر منا. علينا أن نفهم الرهان الأكبر وهو سعينا لحياة أفضل، لأن هناك نصر واحد يجمعنا، وسفينة واحدة تقودنا إلى النجاة، هكذا نكون قادرين على موقعة الواقع ووضع الأمور في نصابها. و دورنا أن نرسم لهم الطريق، و نعلمهم أن زمن الرداءة مهما امتد قادرون وحدهم على تغييره، و أن رسم قارب الهجرة ربما ليس حلا، لأنهم سيواجهون مجتمعا يحيلهم إلى تبني أخلاق من نوع مختلف، أخلاق في عصر الحداثة السائلة. أي إلى فرد مستهلك و استهلاكي، يبحث عن معنى اللذة الآنية لذاته فقط. و هذا فخ تتغير فيه القيم و الهويات بل! و تسيل الحدود السياسية، و تفقد الحواجز التقليدية تأثيرها و أهميتها، سواء من تدفق رأس المال، أو تحرك المهاجرين، أو البحث عن الربح السريع في شبكات الاتصال من مظاهر السيولة، التي تحدث عنها المفكر البولندي باومان (الأخلاق في عصر الحداثة السائلة).
علينا أولا أن نبدأ من الأسرة و هي المرتكز الرئيسي، بل! و الحاضنة الطبيعية لهذا الجيل، التي ترسم له مرتكزات الخصائص المعرفية المولدة للمعرفة و هي تنوير العقل، و هو أهم كتاب تكويني، يجب أن يقرأه الجيل بكل أبعاده و أن يأخذ هامشه الكامل، و ليس فقط الممكن. و إلا سنعود بفعل رداءة هذا الزمن، و هذا الواقع إلى مثقفين ليسوا بمثقفين أصلا، و لا يخطر لهم هكذا نقاش! و سنكون مسؤولين مرتين أمام اندثار أحلامهم و تبخرها، مرة بصمتنا ونرجسيتنا، ومرة أخرى بعدم إنارة الطريق لهم ليقذفوا بالعتمة أبعد من نهاية النفق. و يرسمون مستقبلاً، يحكي عن بصمة مختلفة بتوجيه عقلاني منا كمثقفين، ومن أسرتهم، دون أي سلطة بطريركية- أبوية.