من يسافر يكتشف بسهولة كيف يقوم كل مجتمع بتوزيع الحريات، تجد هذا مثلاً في توزيع الحريات داخل الحدائق العامة وأماكن القهوة والطعام:
أين يمكن أن تجلس وما هي المسافة التي يحق للآخرين أن يجلسوا فيها قريباً منك؟ (ستار بكس مثال سيء لذلك)
يتم ضبط مساحة الحرية لكل شخص وكأنها المياه الإقليمية للدولة.. في بعض المجتمعات تجد مساحة الحرية الممنوحة للشخص واسعة..
فإذا جلس على كرسي الحديقة أو طاولة القهوة فإن مساحة الحرية المحمية حوله تبلغ حوالي متر ونصف إلى مترين ونصف.. لا ينبغي لشخص آخر أن يحتلها ويقتحمها..
كما تمنع الجلوس مواجهة على امتداد واحد حتى لا تكون العين في العين.. فتوضع الكراسي والطاولات بطريقة تنشئ فضاء خاصاً للشخص الجالس وتحجب الآخرين عن الاطلاع والاستماع إلى حد جيد..
اقرأ أيضاً: النظام يعزل مدير تربية دمشق بعد ضبط شبكة تزوير للامتحانات
الأشخاص هنا يملكون مساحة حرية واسعة في الفضاء العام، والتقنية المطلوبة لفعل ذلك إقامة حدود أمام الآخرين كي لا يتدخلوا في هذه المساحة أو يقتحموها ويجلسوا فيها.. لا حريات بدون الحدود..
في مجتمعات أخرى تجد مساحة الحرية لكل شخص ضيقة محدودة، وتوزع الكراسي والطاولات بطريقة تجعل الفضاء الخاص للجالس معدوماً ومفتوحاً على اطلاع الآخرين..
في هذا المجتمع من الطبيعي إذا جلست في قهوة أو حديقة أن يأتي شخص آخر ويجلس على مقربة منك في مسافة قد لا تتجاوز نصف متر، وفي بعض الأحيان تكون مواجهة وجهاً لوجه.. هنا يتم توسيع سلطة الآخرين أن يتدخلوا في مساحة الشخص وتقليصها إلى أصغر حد..
خاصية الحرية الجوهرية أنها تنشئ فضاء خاصاً لصاحبها، وكلما كان هذا الفضاء أكثر حرية كان أكثر اتساعاً.. مثلاً الحرية الاقتصادية تنشئ فضاء خاصاً لصاحبها يمنع الآخرين من الاطلاع عليه والدخول إليه..
تجسد “ستار بكس” أكثر الأماكن خنقاً للحريات ومعاداة لها.. ليس هناك أي فضاء خاص من أي نوع..
الكثير من المجتمعات أو المجموعات المحافظة تتيح لأعضائها مساحات حرية أوسع في الفضاء العام، ولإنجاز هذا فإنها تضيق من سلطة الآخرين في انتهاك الفضاءات الخاصة المحيطة بالشخص فتضع حدوداً لهم..
وأكثر المجتمعات أو المجموعات الليبرالية تضيق مساحة الحرية المتاحة لأعضائها في الفضاء العام.. فتتيح للآخرين سلطة الحضور والاحتلال.. لكن لأنها ليبرالية فإنها تسمي تدخلهم حرية..