ثلاثية الدعوة والعدالة والإيمان العالمي (2)

0 1٬186

أ. عبد الله عتر

بجوار إستراتيجية الدعوة يكون الإيمان بالدين العالمي المُنزَّل من ربّ العالمين، يتبع ذلك إستراتيجية العدل: “فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ”.

شرح المفسِّرون أن جملة “آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ” تتضمن أداتين من أدوات العموم والشمول، وهي لفظ (ما) وتنكير كلمة (كتاب)، أي أن الرسول -وأمته تبع له- يؤمن بجميع ما أنزل الله من كتب دينية على الرسل والأنبياء الآخرين. هذا الإيمان بالوحي العالمي يفتح أفق المؤمنين على العالم بأسره، ويجعل عقيدتهم متصلة بجذور الدين الراسخة. وهو إيمان أصيل يتبع ما ثبت من الوحي لا ما حرَّفه الكهنة والأحبار، والكتاب السماوي الوحيد الذي نملك الأدلة القطعية على موثوقيته هو القرآن، أما التوراة والأناجيل وغيرها من الكتب ففيها الصحيح وفيها المحرَّف، والمرجع المهيمن في ذلك هو القرآن.

الإيمان العالمي يفكك الاستكبار الديني ويحاصر الشك

الإيمان بأنبياء الآخرين وكتبهم السماوية المُنزَّلة يكسر حالة الاستكبار الديني، وهي العقدة التي استحكمت في كثير من اليهود، ثم في كثير من النصارى، أنهم لا يؤمنون إلا بأنبيائهم وكتبهم ويكفرون بما سوى ذلك، أما اليهود المتنورين -الذين اتبعوا نور الوحي- فقد تحرروا من ذلك وآمنوا بمحمد كما آمنوا بموسى وعيسى عليهم السلام جميعًا، وقد كان من أوائلهم الصحابي الجليل (عبد الله بن سلام). هذا الإيمان العالمي المنفتح هو الذي سيجعل المسلمين يتبعون المسيح عند نزوله في السنوات الأخيرة من عمر البشرية، فنحن المسلمون نؤمن بأنبياء الله الذين امتلأت بهم مجتمعات الأرض: “وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ” (سورة فاطر).

الإيمان العالمي يثير في النفس الثقة واليقين بالمعتقدات والأحكام والأخلاق الرئيسة المُنزَّلة، ومن يتتبع القرآن المكي خاصة يلمس بوضوح أنه يركز على إظهار التعاليم المشتركة بين الأنبياء، مثل عقيدة التوحيد وقيم الإنصاف والعدل وعدم الظلم. وهو بذلك يمحو الشكوك التي يمكن أن تأتي على الذهن من أن هذا النبي هو الوحيد الذي جاء بهذه التعاليم، وإننا نجد اليوم في دراسات الأديان المقارنة بقايا الدين العالمي المنزل، نجدها على مستوى المعتقدات والعبادات والأخلاق والمعاملات.

العدل الديني والدنيوي

الأساس الثالث بعد الدعوة والإيمان العالمي هو العدل: “وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ”. شرح المفسرون معنى الآية: أمرني ربي ألَّا أفرِّق بين نفسي وأنفسكم، بأن آمركم بما لا أعمله أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، وأن أسوي بينكم. فهو عدل بين الناس “أسوي بينكم”، ونزاهة في معاملة النفس كالآخرين “أسوي نفسي بكم”. ثم ذكر المفسرون أن مجالات العدل أربعة:

  1. العدل في التبليغ: يجب أن يدعو جميع الناس ويكشف لهم ما جاءه من وحي دون كتمان على أحد، أو استبعاد لأحد، أو اختصاص بأحد. أي أننا أمام مفهوم “المساواة في الوصول لمعلومات الوحي”، وهذا يضرب المفهوم الشيعي والمفهوم المسيحي عن أن أحدًا من البشر يختص بمعرفة جزء من الوحي اختصه به الرسول.
  2. العدل في الحكم: يجب أن يكون منصفًا إذا حكم بين الناس في الخصومات والحقوق، فلا يميز كبير على صغير، ولا قوي على ضعيف، ولا غني على فقير.
  3. العدل في العمل: يستقيم الرسول على ما يدعو إليه، ولا يُعامل نفسه بما لا يعامل به الآخرين، فالرسول والناس سواء في العمل، رغم أن سيرة الرسول أثبتت أنه كان أكثر تعبدًا من عموم المؤمنين.
  4. العدل في الدين: من خلال الإيمان بكل كتاب مُنزَّل وكل نبي مرسل، فلا يأمر اليهود أن يؤمنوا به دون أن يؤمن هو بموسى والتوراة، ولا يأمر النصارى أن يؤمنوا به دون أن يؤمن هو بعيسى والإنجيل، فهو عدل في الإيمان الديني.

ختامًا.. ثلاثية الدعوة والعدل والإيمان العالمي تؤسس القواعد لممارسة الشورى العالمية، فالدعوة تفتح النقاش وتكسر حواجز الصمت والخوف وتستخرج الآراء من الجميع وتعرضها للتفكير الجماعي، والإيمان العالمي يوفر الأفق المنفتح على الآخرين وتمنع المؤمن من الانغلاق على ما عنده، أما العدل فهو الضمانة الفعلية لأن تكون الشورى فعالة وحقيقية. وهذه الثلاثة باجتماعها تكون قادرة على هزيمة ذئاب الشر الثلاثة التي تغتال الشورى، وهي الكبر والبغي والشك.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط