يقول الأديب الراحل نجيب محفوظ : “إن المبدعين في السبعينيات كانوا أحرارا في أن يقولوا ما يشاؤون في أحاديثهم ومقالاتهم، وهو ما جنى على الجانب الإبداعي لديهم، حيث لم تكن أمامهم تحديات كتلك التي وجدت في الستينيات، والتي قادت إلى إنجاز الأعمال الإبداعية، بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير عما يريدونه”
فإذا كان الإبداع الأدبي يحتاج إلى قدر من الحرية السياسية، فهو إذا يقدم الأدب بوصفه نوعا من المقاومة، كرد فعل من الأديب أو المثقف ضد السلطة، لكن باللجوء إلى الرموز، وتغيير الشخصيات، وإضفاء بعض الخيال على الوقائع أو إسقاطها على الحاضر في رداء قصصي مثلا، وهذا يجعل المثقف والأديب في مأمن تام في مواجهة القوانين التي تسنها السلطات للحد من حرية التعبير.
وما ينطبق على المثقف والأديب، ينطبق على المؤرخ، الكاتب، الاقتصادي، رجال الدين والكهنة الخ …
وإذا كان هؤلاء يمتلكون خيالا خصبا يعتمد النقد اللاذع والنصح المبطن – بخاصة الأديب والمثقف – حيث ليس باستطاعتهما وللأسف استخدام الأسلوب ذاته الذي اتبعه ميكافيللي وغيره من المثقفين والأدباء الغربيين في النصح المباشر بسبب تسلط السلطة السياسية في مجتمعاتنا العربية. فصناعة التسلط تلاحقهم في كل زمان ومكان، من خلال كبح الأصوات التي لا تتماشى مع أهوائها وسياستها، علما أنها بذلك لا تمارس إخماد خطاب الحق في إطار المساحة التي تقاوم فيها سلطة المعرفة! بل تلجأ لإخضاع الإنسان لمصالحها، ومنطقها بالإكراه، بهدف تحقيق مصالحها، مع عدم مراعاة الناحية الإنسانية والأخلاقية، حتى في أخلاق السياسة!
في مفهوم السياسة وعلاقتها بالأخلاق:
السياسة تعني فلسفيا بالمعنى الأوروبي للسياسة “فن الممكن”، أو فلسفة القوة (بحسب المبدأ الميكافيللي)، وقاعدتها الأساسية في البناء هي المصالح، لا الأخلاق . لكنها في الوقت نفسه تحتكم إلى الأخلاق. والمقصود بأخلاق السياسة هنا هو أخلاق الإصلاح، -بمفهومنا الإسلامي-غاية السياسة تحقيق المنفعة ولكن بفضيلة، فلا فساد ولا إفساد. بل تحقيق التدابير السياسية بفضيلة. بحكم أن السياسة هي من الفروع، وليست من الأصول في منهجنا الإسلامي كالعقائد.
على سبيل المثال، نريد بناء مسجد، تمويله يجب أن يكون من أموال نظيفة. بينما في الغرب الأوروبي تحقيق المنفعة السياسة مختلفة تماما، وتعني تحقيق المنفعة بأي ثمن وأي وسيلة كانت. ( الغاية تبرر الوسيلة).
الشذوذ الجنسي لديهم مباح، ومن الشروط المهمة للدخول في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، إباحة الشذوذ الجنسي! الحرية في الليبرالية الغربية حاضرة، على سبيل المثال في عام ٢٠٠٥ تم تبرير الاستعمار الفرنسي للجزائر! بينما هذه السياسة بالنسبة لنا كعرب وكمسلمين هي ليست استعمار وحسب! بل! كما قال المفكر الإسلامي بن نبي (استدمار). هذه سياستهم وهذه الأخلاق العلمانية. لكنها ليست أخلاق مسيحية. المسيحية على سبيل المثال، لا تطالب بتعرية المرأة، والنموذج الاختزالي لهذا المشهد هو السيدة مريم العذراء. إذا السياسة عندما تنفصل عن الأخلاق تدخل في متاهة. وهنا لا بد من التخصيص والتمييز.
فإذا كانت وظيفة الأديب نقل هموم المجتمع بطريقة إبداعية وأدبية، على شكل نص، يصل إلى السلطة السياسية، لإيجاد حلول مجدية لأزمات المجتمع. فوظيفة السياسي تلقي هذه الهموم ومحاولة إيجاد حلول إيجابية لها من خلال ترجمتها سياسيا إلى السلطة.
إذاً الأديب والسياسي تجمعهما ثقافة وتاريخ، فإذا كانت ميزة الأدب الشفافية، السياسي تتحكم به الظروف، والأديب يحكمه العقل المبصر، والأخلاق يحكمها الشرع. الإمام أبو حامد الغزالي منذ ألف عام قال:” العقل مثل البصر، والشرع مثل الضياء، لو أن أحداً لديه عقل وليس لديه شرع يسير في ظلام دامس، ولا قيمة لبصره.”
الشرع مع العقل نور على نور. وفي هذا الصدد بيتان من الشعر للطهطاوي عندما زار باريس عام ١٩٢٦:
أيوجد مثــل باريس ديـــار شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح أم هــــذا وحق الله عجيــب
فإذا كانت السياسة تسير في أوروبا في نفق مظلم، لأنها فقدت القيم الأخلاقية، ولأنها تتبع المنظومة الداروينية. فالسياسي الناجح في بلادنا ينبغي أن يتبع تدابير تكون معها سياسة الناس أقرب إلى الصلاح.
هل تكون العلاقة بين الأدب والسياسة علاقة نووية باستمرارها وامتدادها؟
من الملاحظ أن هاتين العلاقتين تكملان بعضهما البعض، وكل منهما مؤثرا تأثيرا بالغا في الآخر. فإذا كانت الجماهير العربية قد نزلت إلى الشوارع خلال الأعوام ٢٠١١-٢٠١٢ لتقول كلمتها ورأيها السياسي في السلطة السياسية. فقد استلهمت أفكارها من الأدبيات الثورية والثقافية. ولعلنا هنا نخالف قول مهم لأرسطو:” إن المعايير التي تنطبق على الشعر غير تلك التي تطبق على السياسة، وغير التي تطبق على الصنائع الأخرى”.
بمعنى أن الأدب منغرس في معركة الواقع، بينما السياسة لا تنغرس في فقه الواقع. لكن هذا ليس وارد دائما، ومثال على ذلك ثورات الربيع العربي التي، قادتها الجماهير العربية، مستلهمة افكارها الثورية من الأدبيات الشعبية والثقافية، قديما وحديثا.
وإن كانت في أحايين كثيرة، قيمة الشيء تعتمد على الذات المدركة له لا على صفته، وعندما نطلق حكما قيميا على أمر ما، نعبر من خلاله عن انفعالاتنا حياله. وهذه وظيفة الأدب والأديب. خلق حالة ابداعية وخصوصية عميقة لسرد حكم قيميي كالشر، الخير، السلوك الحسن، العدل، الظلم الخ .. هذه أحكام قيمة يطلقها الأديب لخلق نص إبداعي، لكنها لا تندرج في معايير السياسة، معيار السياسة الوحيد وخاصة في الغرب الأوروبي، الذي لا يحتكم بالسياسة إلى الشرع، هو المصالح فقط.
مع الاختلاف بالمستوى العملي والنظري لشكل السياسة والأدب. قد تكون القيم السياسية مدخلا لدراسة نص أدبي من منظور سياسي. لكن العكس ليس صحيحا!
بمعنى قد تتقاطع القيم السياسية مع مفاهيم وقضايا تقع في صلب العمل الأدبي، ليصير خلاقا وإبداعيا، أو ذو مسحة وتصور فلسفي جمالي، ينشد حياة أكثر إنسانية وعدلا. هنا تستطيع القيم السياسية أن تفرض نفسها بصورة واقع الحدث بشكل مباشر وواضح. لتكون مدخلا لأعمال أدبية وملهمة، وهذا يحتاج إلى أدباء ذو حرفية عالية، لديهم المقدرة على المزج بين مفاهيم الأدب وقيم السياسة.
كلمة أخيرة في هذا الصدد:
من المؤلم جدا في أيامنا هذه أن تتحول مهمة الأديب أو المثقف، إلى بوق إعلامي ودعاية للسلطة يفقده أي هامش من الحرية مهما كان ضيقا . متناسيا تماما أن الكلمة أمانة، ودوره رسالي، عليه أن يؤديه بأمانة. سينصف شعبا آمن به وبرسالته من جهة، ولينصف نفسه أديبا ومثقفا من موقعه الأدبي والثقافي. فإذا كان الأديب والمثقف المبدعان لديهما آذان يسمعون بها صوت الحق، وصوت مقاوم ينشد الحق، ويكتب كلمة حق ويدافع عنها . فمن المؤسف أن يكون دور السياسي بشكل عام، وغالبا محدودا، ويمتلك آذانا مصغية لصوته، وصوت مصالحه بفقرها للمشاعر الإنسانية . – إلا من رحم ربي –