ربيع قرطبة.. لماذا لم نصل إلى مآلات ابن أبي عامر؟

عفاف جقمور

0 1٬108

في حسابي الأوّل الذي امتلكته على المساحة الزرقاء سألني في سياق إكمال ملفي الشخصي: “من هم الأشخاص الملهمون لديك؟”

لم يسألني ذلك السؤال إلا أعزّ المقربين لدي، ربّما كانوا يحسنون الدخول إلى القلب بتركنا نعبّر عن أنفسنا! قلت لهم على الفور: “محمد بن أبي عامر”، أجد ذلك الموقف حاضرًا في ذهني دائمًا.

كنت أعتقد أنّ من تابع “ربيع قرطبة” عشرات المرّات عددٌ قليل وكنت منهم، كنت ممّن جعلوه نبراسًا لأحلامهم، لكنّ ذلك الربيع كان حاضرًا في مخيّلة جميع الشّباب الآملين بالتّغيير، تلك التّحفة التي تم إنتاجها في 2002 واستمرت مشاهدتها سنوات إلى اليوم، مرّات كثيرة أجد نفسي أبحث عن إحدى حلقاتها.

فيقول له: “قد ذهبت الطائفة التي بوسعها أن تجتهد”، فيردّ بقوله: “كأنك تنعي الأمة وتنذر بفنائها؟ لكلّ عصرٍ رجاله، فهل هذا ما نخرج به إلى الناس؟!! نسبّ حاضرهم وننعي مستقبلهم”

تقول الإحصائيّات: إن عام 2010 بلغت ذروة طفرة الشباب في الوطن العربي، مقترنًا ببطالة عارمة مع سوء بالغ في الأوضاع المعيشية، يخمّن البعض أنّها سبب في اشتعال ثورات الربيع العربي، ربمّا اختار (وليد سيف، وحاتم علي) وقتًا موفّقًا في طرح أفكارهما وعرضها في سياقِ درامي جميل.

ذلك النصّ البديع والإخراج المرهف

“أيا لكِ نظرة أودت بقلبي فغادر سهمها قلبي جريحًا”

تمّ تصوير المسلسل في المغرب شقيقة الأندلس، دمج حضارة المشرق بالمغرب زاد من حدّة الأفكار وعمقها، حوارات المسلسل والكثير من المشاهد كانت ملهمة، حديثه مع صديقه (قارل) الذي يتعلم العربية عن الدّول، وهل ستبقى قرطبة حاضرة الدنيا أم تدول إلى غيرها.

أحد الحوارات الرائدة فيه كان حديثه مع أحد المتنطّعين حين قال: “فإنّ الله تعالى يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن”، يجري بعدها نقاش مطوّل حول السلطان والاجتهاد والنظريّة والتطبيق، فيقول ابن أبي عامر: “لا أرى العقل والنقل ضدين، بل لا بدّ لأحدهما من الآخر، والذي أنزل الكتاب هديًا للبشر هو الذي خلق العقل وميّز به الإنسان وأناط به التكليف، فإسقاط العقل كأنّه إسقاط للتكليف!”

فيقول له: “قد ذهبت الطائفة التي بوسعها أن تجتهد”، فيردّ بقوله: “كأنك تنعي الأمة وتنذر بفنائها؟ لكلّ عصرٍ رجاله، فهل هذا ما نخرج به إلى الناس؟ نسبّ حاضرهم وننعي مستقبلهم”.

لكن ما الذي حلّ بهؤلاء الشّباب الذين تأثروا بذلك المسلسل وتلك الحوارات؟ لماذا لم يصلوا إلى ما وصل إليه ابن أبي عامر؟

أعرف أن التعقيدات الحاليّة في عالم السياسة ليست سهلة، لكنّ الأمر لم يكن سهلاً كذلك في قرطبة، إذ إنّ بيت الخلافة منيع ولا يدخله سوى أقرب المقربين، ولا يوجد تداول سلميّ ولا جهات مساءلة وشفافية، ورغم الحجب الكثيرة تلك وصل إلى سدّة الحكم بعد أن سدّد وقارب.

ويعود لنا التساؤل نفسه: لماذا استطاع أن يملأ مشاعرنا حماسًا دون أن نصل إلى ما وصل إليه؟ الكثير منهم قوقع نفسه في نظريّة عموم الفساد، وأن الإصلاح لا ينفع، وأن المعارف والعلاقات هي الوسيلة إلى الوصول ولا تزيد الكفاءة من الأمر شيئًا أو تنقصه، وهؤلاء لم يزيدوا على أن تركوا أنفسهم وإرادتهم خارج معادلة التغيير تلك.

ذهب آخرون إلى أن الكفاءة فقط هي المنهج الصحيح للوصول، فزادوا في كفاءتهم كثيراً لكنّهم لم يحسنوا ترتيب العلاقات وتطويرها، فحدّوا من علاقاتهم مع هذا وكمنوا الحقد على ذاك، فعادوا إلى معسكر أصحابهم الأوائل يعزون عدم وصولهم إلى أنّ الأمر علاقات وعلاقات فقط والكفاءة ليست ذات أهميّة.

فمنهم من خرج يدندن نظريّاتٍ حداثيّة، والفرق الشاسع بينها وبين مفردات واقعنا، ومنهم من بقي يحدّث عن تاريخ قومه وقصصهم دون أن يستطيع أن يضيف للتاريخ شيئًا من واقعه.

وبين هذا وذاك؛ هل يخرج فينا كابن أبي عامر، يزيد من علاقاته وكفاءاته معًا، فيتملك زمام الأمور بعد أن قارب على الانفلات؟

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط