رسالة من القاع إلى الجالسين في الأعلى

أحمد وديع العبسي

0 890

الحياة تبدو هادئة وادعة جميلة، الناس بسطاء بلا تكلف ولا تنمق ولا تجمّل زائد، الجميع هنا على سجاياهم، يفعلون ما يحبونه ببساطة، ويتذمرون مما يكرهون بالبساطة نفسها، دون أن يصدّعوا رؤوسنا بمقولات عاطفية وتراجيدية تشرح تذمرهم العميق واللامتناهي، وتجعل أحزانهم جزءاً من الأحزان السرمدية لهذا الكوكب أو لمجرة درب التبانة، وهنا لابدّ من ذكر اسم المجرة للدلالة على العلم والثقافة والمعرفة الفلكية الكوكبية.

كل شيء هنا في القاع يبدو عادياً جداً، مألوفاً ومتاحاً، وبدون ترميز وتعقيد أولئك الجالسين في الأعلى، تستطيع أن ترى دوستويفسكي يتمشى معنا بلا مبالاة، وبدون كل تلك الاقتباسات والمقولات والحكم العظيمة والاشعار الركيكة التي تنسب إليه، والتي أخذت مكانها كنياشين ثقافية على صدور من يقطنون في الأعلى بعد أن ارتقوا وأراحونا من معاناتهم التي لا نفهمها “نحن” من يسكن هذه الفسحة الجميلة في القاع الهادئ.

بإمكانك هنا أن تقرأ أشعار نزار قباني أو جرير أو المتنبي أو أي شاعر مشهور آخر أو مغمور دون أن تدعي أنك من اكتشفه وشجعه وألهمه عن طريق نقدك الثاقب وآرائك الخلبية، ودون أن تصدِّع رؤوسنا بثقافتك منقطعة النظير تجاه قصص القصائد الشهيرة والمناسبات التي قيلت فيها، ومقارباتك النقدية واقتراحاتك للتعديل على الأبيات القديمة والجديدة لتصبح أفضل، أو تحكي لنا قصة لقائك القديم بالشاعر، أو تصورك لما ستقول له لو التقيته إذا كان من عصورٍ لم تدركها عبقريتك بعد.

اقرأ أيضاً | القلق كوظيفة أممية 

هنا لا تُضطر لتتحفنا بمناصرتك للمرأة وقضاياها بعد كل قصيدة غزل، كما لا يحتاج الناس لمعرفتك لرمزية المرأة وشَعرها وجسدها في القصائد، وما تأخذنا إليه من تأويلات سخيفة لما بعد النص وقبله وبنيته وحداثته واللاشعور في حروفه وصوره، مما لم يعرفه الشاعر نفسه، هنا نقرأ الشعر ونتغزل بالمرأة كما هي، بكل الجمال الإلهي المباشر الذي وصفه الشعراء، دون أن نتطرق لعفتك وأخلاقك التي تستفيض في شرحها لنا أمام صورة عارية، وأن تحاول أن تخبرنا ما تراه خلف الصورة، ونحن بسذاجتنا لا نرى خلف الصورة إلا الحائط والمسمار المعلقة عليه.

هنا في القاع لا يوجد جنرالات حرب ولا قادة فصائل ولا شرعيين يفصّلون الدين على مقاسات كتائبهم، ولا سياسيون محترفون يجترّون الكتب والنظريات والخطابات الرنانة ووعود النصر منذ عشر سنوات … فالجميع قد ارتقى منذ وقت طويل عندما ازدحم هذا القاع الذي لا يليق بهم بأمثالنا، وهاهم اليوم يغردون ويزقزقون على توتير بمقولات خالدة وحكم بليغة يصعب على أمثالنا فهمها، فنشتمهم ليل نهار، لأننا في القاع هنا لا نجيد إلا الشتائم كما يقولون ولا يُعجبنا شيء.

في القاع لا يوجد ثوار يمجدون الثورة وأنفسهم الثائرة ويجعلون أنفسهم أفضل من الناس لأنهم ثاروا على الظلم، وتزينوا بكل ألقاب الثورة والنضال، هؤلاء أيضاً ارتقوا في مناسبات سابقة عندما أتعبهم زحامنا الرديء، نحن الذين لا يجدون أن الثورة تفاضل بين البشر، فنحن هنا مجرد أناس بسطاء يحلمون بالحرية والعدالة والكرامة، ويعملون لأجلها بصمت ودأب، لا تهمهم الألقاب ولا تشغلهم المناصب والنياشين، فكل ما يشغلنا ألّا تشج رؤوسنا بالأوسمة المتساقطة من الأعلى عندما يتنازع عليها من يمنحون الناس صكوك الثورية والوطنية.

هنا أيضاً لا يوجد حفلات توقيع كتب مملّة ولا محاضرات باهتة عن التفكير والتنمية والعادات الثلاثون الحديدية وهذا الهراء الذي يبتذل بشكل شبه يومي، ولا توجد أيضاً ندوات عميقة ومركزة! تدرس أسباب إجهاض أنثى الصرصور في حملها الأربعين تحت عنوان (الآليات والدوافع) تجربة سريرية 😊

هنا في القاع تستطيع أن تشرب القهوة كما تشتهي، تعبها عباً، ترتشفها، تحتسيها، الطريقة غير مهمة، المهم أنك تشرب القهوة، كما لا داعي أن يكون الفنجان مطرزاً بعبارات لولبية الأفكار، أو برسومات وزخارف مبهمة وعميقة، يمكن أن تشربها بكأس شاي عادي، لن تجد أحداً ينتبه لهذه التفاصيل المملة.

كما من الطبيعي جداً أن تجد أناس يشربون الشاي، والزهورات والحليب وحتى منقوع اليانسون أو الشراب الصناعي الذي يحوي ملونات غير صحية، القاع ليس حكراً على أصحاب القهوة ومرادفاتها الأجنبية من الكبتشينو والموكا والهات شوكلت وغير ذلك مما يتعاطاه مثقفو الطوابق العليا.

اقرأ أيضاً | كيف تخسر وزنك بسرعة 

بإمكانك هنا أيضاً أن تأكل بكلتا يديك، بعيداً عن البروتوكولات المحمومة للشوكة والسكين، ودون أن ينظر إليك الناس على أنك متخلف لمجرد أنك تستخدم الخبز للتغميس، ولا تضع منديلاً على رقبتك من باب الاتيكيت.

أخيراً .. المساحات هنا واسعة مليئة بأشياء جميلة يمكننا الحديث عنها بمنتهى البساطة، والناس يعرفون بعضهم بدون ألقاب، كما لا يوجد صخور كبيرة في القاع، لأنّ معظمها قد قام برفعها من صعدوا للأعلى في رحلتهم الشاقة والسيريالية الأسطورية، من أجل أن يقفوا فوقها لكي يراهم الجميع، وما زالوا يتنافسون على تجميع الصخور، مما جعل القاع أرضاً منبسطة مليئة بالأزهار خالية من أي عقبات بين الناس.

 

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط