منذ اندلاع الحراك الثوري في سوريا عام 2011، صعّد النظام السوري حملات الاعتقال والمداهمات، مستهدفًا المدنيين والنشطاء والصحفيين والمعارضين في محاولة لقمع أي تحرك مناهض له. ومع تفاقم التوترات، أصبحت الاعتقالات أداة رئيسية تستخدمها السلطات لإسكات أصوات الحرية والكرامة وإخماد أي شكل من أشكال الاحتجاج.
وبمرور الوقت، تحولت هذه الاعتقالات إلى واحدة من أبرز القضايا في الثورة السورية، حيث وُثّقت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت التعذيب الممنهج داخل مراكز الاحتجاز، ما جعلها رمزًا للقمع والانتهاكات المستمرة تميز بها نظام الفار بشار الأسد.
حيث تنوعت أساليب الاعتقال بين اقتحام المنازل، والمداهمات في أماكن العمل، أو حتى توقيف الأفراد في الشوارع والجامعات، فيما لجأت الأجهزة الأمنية إلى أساليب تعذيب وحشية لانتزاع اعترافات قسرية تبرر القتل والقمع وتؤدي مهمتها في بث الخوف والرعب في المجتمع السوري.
تعذيب ممنهج وأمراض جسدية ونفسية تلاحق الناجين من المعتقلات
“سارة”: خرجت من الظلام إلى نور الحرية، لكن جراحي لن تندمل
بعيون تملؤها الدموع ونظرات تائهة، تستعيد “سارة” (اسم مستعار)، 33 عامًا من حلب، تفاصيل رحلتها المؤلمة داخل معتقلات النظام السوري. لا تزال آثار التعذيب تلاحقها، وكأنها لم تغادر الزنزانة التي سُجنت فيها قسرًا، حيث تحوّل الحلم البسيط بمستقبل آمن إلى كابوس لا نهاية له.
تروي سارة قصتها قائلة: “كنت طالبة جامعية عام 2011، أحلم بمستقبل يشبه أحلام أي شابة في مقتبل العمر، لكن فجأة، اقتحمت دورية أمنية الحرم الجامعي واعتقلتني مع أربع طالبات أخريات. لم أكن أتخيل أنني سأجد نفسي في جحيم صيدنايا، حيث غُيّبت عن أهلي وعن الحياة، ودخلت عالمًا لا يعرف الرحمة، مليئًا بالألم والخوف والتعذيب.”
وتتابع: “في السجن، لم أكن سوى رقم في قائمة المعتقلين. كان الهدف هو تدميرنا ببطء، كنا نُحرم من الطعام والماء، ونتعرض لأبشع أنواع التعذيب، من الصعق الكهربائي والضرب الوحشي إلى الاغتصاب. لا يزال جسدي يحمل آثار الحروق التي لم تلتئم بعد.”
بعد 14 عامًا من العذاب، أُطلق سراح سارة في 8 كانون الأول 2024، لكن الحرية لم تكن نهاية معاناتها. “خرجت من السجن بجسد محطم وروح مثقلة بالجراح. عيني التي كانت تتطلع إلى السماء أصابها الضعف بسبب الضرب، أسناني التي اعتادت الابتسام تحطمت، وأضلعي التي كانت تحمل أحلامي تهشمت تحت وطأة التعذيب.”
اقرأ أيضاً: شام FM، السلطة والإعلام، ذراع النظام الناعمة
ليست سارة وحدها من تعاني، فغالبية الناجين من المعتقلات يواجهون أمراضًا جسدية ونفسية مزمنة، ترافقهم كذكرى حية لمعاناتهم. وتختم سارة حديثها بنداء للعالم: “لا تنسوا ما حدث في سوريا، لا تنسوا من عُذبوا وقُتلوا ظلمًا. العدالة هي الدواء الوحيد لجراحي التي لن تندمل إلا بمحاسبة الجناة.”
رحلة من العذاب إلى العزلة
في عام 2012، اعتُقل أحمد، البالغ من العمر 45 عامًا، عند حاجز الكنسروة في إدلب، لتبدأ رحلة من التعذيب الممنهج والإهمال الطبي المتعمد. “كانت جراحه تُترك بلا علاج، وأحيانًا تُملّح عمدًا لزيادة الألم. الطبابة لم تكن موجودة في السجن عمدًا، وكان المعتقلون ينزفون حتى الموت”، تروي زوجته.
في فرع أمني بدمشق، قضى أحمد ستة أشهر تحت التعذيب، مستخدمًا فيها “الشبح، الدولاب، الصعق الكهربائي، وإحراق الجلد بشمعة موضوعة تحت الكرسي في الزنزانة الانفرادية”. إحدى أسوأ وسائل التعذيب كانت تعريض المعتقلين لتيار كهربائي بعد غمر أرضية الزنزانة بالماء، ما أدى إلى وفاة العديد منهم، خاصة من يعانون من أمراض مزمنة.
نُقل أحمد لاحقًا إلى سجن عدرا المدني، حيث أمضى ثلاث سنوات وسط ظروف قاسية. الطعام لم يكن سوى “برغل، ووجبة حمص، وبيضة واحدة أسبوعيًا”، فيما انتشرت أمراض خطيرة مثل السل والجرب والقمل. “
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
من كان يموت بالسل، كان يُلف في كيس بلاستيكي ويُرمى في مكان مجهول، بلا أي احترام لإنسانيته”، تتابع أم نادر.
التنقل بين السجون لم يكن يعني سوى مزيد من العذاب، فقد قضى عشرة أيام في فرع فلسطين، ثم ستة أشهر في فرع حمص، حيث تعرض مجددًا للجرب، بسبب الجرذان والحشرات في الزنازين. انتهت رحلته أخيرًا في سجن باللاذقية، حيث واجه معاملة طائفية قاسية، وكان يسمع عبارات مثل: “اقتل سنيًّا وادخل الجنة”.
لكن أبشع ما شهده أحمد كان في سجن اللاذقية، حيث جُمع المعتقلون في ساحة كبيرة وأُحضرت عشر فتيات من جامعة حلب، تعرضن للتعذيب الوحشي والاغتصاب أمام الجميع. “من كان يغض بصره كان يُعدم فورًا”، تروي أم نادر نقلاً عن زوجها، مضيفة أن بعض الفتيات لقين حتفهن من شدة التعذيب.
أحد المعتقلين، الذي تعرف على إحدى الفتيات، صرخ بألم: “يا أمة الإسلام، يا أمة محمد!”، ليُقتل على الفور بعد أن انهال عليه الجنود ضربًا بحربات البنادق.

في المعتقلات، كان المعتقلون مجرد أرقام بلا أسماء. مُنعوا من الصيام والصلاة، وعندما يحلّ شهر رمضان، كانوا يتلقون وجبة واحدة فقط عند الظهر، لمنعهم من الصيام. “من لم يأكل ظهراً، بقي جائعًا حتى اليوم التالي”، تقول أم نادر، مضيفة أن المعتقلين تعرضوا لإهانات مستمرة تستهدفهم وتستهدف عائلاتهم، في محاولة لكسر إنسانيتهم تمامًا.
بعد سنوات طويلة، خرج أحمد من المعتقل، لكنه ظل أسير الذكريات ” بات يخاف الضوء، يخشى الأصوات العالية، ولا يزال يرتعب من فتح الأبواب وإغلاقها، ينعزل في غرفته المظلمة، يطفئ الأنوار، ويسدل الستائر، يستيقظ مفزوعًا من كوابيس تعيده إلى ظلام الزنازين”، تروي زوجته بحزن.
“زوجي خرج من السجن، لكن السجن لم يخرج منه”، تقول أم نادر، وهي تحاول أن تتعايش مع رجل لم يعد كما كان، رجل سُلب منه عمره وتركته التجربة في ظلال الخوف والعزلة، في انتظار عدالة باتت مطلباً ملحًا.
فيصل يروي تفاصيل الجحيم في فرع فلسطين: “الخوف كان أشد من الألم“
لم يكن التعذيب الجسدي هو الأسوأ في زنازين النظام السوري، بل كان الخوف المستمر، الذي نهش أرواح المعتقلين وحوّل حياتهم إلى كابوس لا ينتهي. فيصل (اسم مستعار)، أحد الناجين من سجن فرع فلسطين بدمشق، اعتُقل عام 2017، ولم يرَ النور مجددًا إلا في 8 كانون الأول 2024، بعد تحرير سوريا. لكن خروجه لم يكن خلاصًا، إذ تركت السنوات التي قضاها في السجن ندوبًا لا تمحى، جسديًا ونفسيًا.

“عذبونا بالتجويع حتى بات الحصول على كسرة خبز رفاهية”، يقول فيصل، متذكرًا الأيام التي مرت عليه دون طعام، في بعض الأحيان، كان المعتقلون يُتركون لثلاثة أيام متواصلة دون أي وجبة، في محاولة لكسر إرادتهم وسحق إنسانيتهم.
لم يكن التجويع الوسيلة الوحيدة للتعذيب، فقد كانت الإذلال والإهانة ممارسات يومية. يروي فيصل كيف كان الحراس يغطون وجوه المعتقلين باللبن ويجبرون زملاءهم على لعقه لسد رمق جوعهم، في إذلال متعمد لكسر كرامتهم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان السجانون يغمسون المعتقلين رأسًا على عقب في براميل الماء حتى يصل السجين لمرحلة الاختناق.
يصف فيصل الاعتداءات الجنسية التي تعرض لها المعتقلون بأنها من أشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي التي عايشها. “كان الاغتصاب باستخدام العصي وسيلة أخرى لإذلالنا، لتحطيمنا من الداخل، وجعلنا نشعر بأننا مجرد أدوات تحت رحمتهم”، يقول فيصل بصوت يختنق بالألم.
في زنازين فرع فلسطين، كان للموت أسماءٌ يخشاها الجميع. “أبو عزرائيل، أبو الجماجم، والمساعد أبو الليث.. مجرد سماع أسمائهم كان يرعبنا”، يقول فيصل. كان هؤلاء السجانون معروفين بأساليبهم الوحشية، حيث لم يكن صوت خطواتهم مجرد تحذير، بل كان نذير شؤم لمزيد من الألم. كان اقتراب أحدهم من الزنزانة يعني بداية فصل جديد من العذاب، يدفع المعتقلين جميعًا إلى حالة من الهلع والارتعاش.

رغم الألم الذي حمله فيصل وغيره من الناجين، إلا أن أملهم في العدالة لم يمت. المنظمات الحقوقية تواصل توثيق هذه الجرائم، وتسعى لكشف الحقيقة أمام العالم، في محاولة لإنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة. لكن بالنسبة لفيصل، كما للآلاف غيره، فإن الجروح التي خلفها التعذيب لا تندمل بسهولة، ويبقى السؤال معلقًا: متى يحاسب المجرمون؟
التقينا رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني” أخبرنا أن الشبكة السورية والعديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية تسعى جاهدةً لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة لهؤلاء الناجين وعائلاتهم، الذين يعيشون في حالة من الغموض والألم منذ سنوات. هذه الجرائم، التي تُعد من أبشع انتهاكات حقوق الإنسان في العصر الحديث، تذكرنا بأهمية استمرار الضغط الدولي والمحلي لملاحقة المسؤولين عن هذه الانتهاكات وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
وفقاً لما ذكره لنا “محمد عمر الطير” رئيس هيئة الاتحاد للدفاع عن المعتقلين، تم اعتقال ما يقارب 800 ألف شخص خلال فترة الثورة السورية ولم يتم الإفراج سوى عن 36 ألف معتقل فقط.

معاناة الناجين جروح تنشد العدالة
اليوم، يعيش الناجون من هذا السجن وغيره على آثار عميقة، جسدية ونفسية، لا يمكن محوها بسهولة. هؤلاء الذين خرجوا من الجحيم خلف جدران صيدنايا وغيره أصبحوا اليوم صوتًا قويًا يكشفون للعالم الفظائع التي مرت بهم. معاناتهم ليست مجرد ذكريات مؤلمة، بل هي دعوة للعدالة، للمطالبة بمعاقبة المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجرائم البشعة.
من الضروري أن تعمل السلطات المعنية اليوم بإجراء تحقيقات عاجلة وشاملة في هذه الجرائم، وتحقيق العدالة بأسرع وقت ممكن. ينبغي محاسبة جميع المسؤولين عن تلك الانتهاكات، مع اتخاذ إجراءات فعّالة لتعقب الجناة، فالوقت الذي يمضي هو رهان المجرمين اليوم لعدم تطبيق العدالة أو هو فرصتهم للهرب وطمس الحقائق ودثرها بحلقات وأدلة مفقودة.
ولأن العدالة لا تقتصر فقط على المحاسبة، بل يجب أن تشمل أيضًا دعم المعتقلين الناجين الذين عانوا من الاعتقال التعسفي، معنويًا وماديًا، لتعويضهم عن السنوات التي قضوها في السجون، بالإضافة إلى ضرورة إعادة تقييم قضاياهم بشفافية تامة، وتوفير تعويضات عادلة تساهم في إعادة تأهيلهم.
تبقى جرائم النظام السوري في سجونه وصمة عار في تاريخ حقوق الإنسان، ومطالب الناجين ليست مجرد صرخات من أجل العدالة، بل هي دعوة إنسانية وأخلاقية لا تقبل التأجيل.