أيام قليلة فقط تفصلنا عن بلوغ معركة طوفان الأقصى يومها المئة، وما زالت الصورة تتكرر كل يوم دون جديد في تكتيكات الحرب، وما زال العدو عاجزاً عن إعلان التفوق لا السيطرة والانتصار بعد أكثر من 95 يوماً على الاشتباك المباشر والمستمر والمعارك المحتدمة
لا جديد يذكر عندما أكرر أن غزّة انتصرت، فمنذ اليوم الأول بدا الانتصار واضحاً، وبدت كل العمليات العسكرية الصهيونية عمليات انتقامية هوجاء بلا معنى ولا هدف ولا جدوى، وغير قادرة على تغيير المعادلة أو رسم صورة جديدة للمعركة، وما يزال العدو إلى اليوم يتجنب إيقاف المعركة خوفاً من تداعياتها على الداخل الصهيوني، لأنه يعلم أنها ستكون بوابة لانقسامات كبيرة في بنيته تشي بقرب انهياره الكامل أقرب من أي وقت مضى أو كان متخيلاً …
وسريعاً جداً لا بدّ لنا من تلمّس ملامح النصر الذي نتحدث عنه بعد أكثر من 25 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى ونزوح عظيم، وتشرّد هائل لأهل غزّة لم يسبق أن تعرض له الفلسطينيون منذ نكبة تأسيس الكيان الصهيوني، فكيف يستقيم النصر، وكيف نفهم معادلة التفوق الفلسطيني والانتصار العظيم.
في مقال سابق شرحت بشكل مبسط كيف بدا الانتصار في أيامه الأولى، وشرحت أيضاً كيف أنه انتصار مميز جداً بحيث أن العدو غير قادر على تغييره مهما فعل حتّى لو مسح غزّة وأهلها من الخارطة. واليوم أحاول أن أستفيض في شرح ملامح أخرى تبدو أكثر وضوحاً لهذا الانتصار وأكثر رسوخاً ودواماً واستمرارية، وتجعل الحديث عن أي هزيمة أو خسارة ضرب من العبث والجنون وانكار الذات وربّما الخيانة …
قبل شرح هذا الانتصار علينا مراجعة أهداف هذه العملية لنقرر إن كانت ناجحة أو كانت فاشلة، فتحقيق الهدف هو الأساس وهو ما يبنى عليه الانتصار أو غير ذلك، امّا الخسائر في الحروب فهي أمر متوقع، لا يوجد حرب دون ضحايا، ولكنها تصبح كارثة إذا لم يتحقق هدف المعركة وكانت كل تلك الدماء تُسكب عبثاً ضمن إطار مغامرة عسكرية غير محسوبة وغير مدروسة (معارك ارتجالية انفعالية لا تحدد أهدافها، وإنما تنتظر النتائج!!!! من يخوض المعركة يشبه إلى حد كبير من يتفرج عليها، لا أحد يعرف ماذا سيحقق تماماً ولا كيف سينتهي القتال) هنا الكارثة … هنا تكمن الهزيمة … ويمكن التشتت … ويغيب التكتيك العسكري ويغيب الهدف الاستراتيجي …
نعود إلى الأهداف كما أعلنتها حماس، والتي تمثلت في ثلاث نقاط رئيسية:
- الرد على الاعتداءات التي يمارسها الصهاينة بحق كل فلسطين وبحق المقدسيين بشكل خاص وبحق أهل غزة
- الوقوف في وجه المحاولات التي صارت متكررة لتهويد القدس والاستيلاء على المسجد الأقصى وهدمه
- إخراج الأسرى الذي يقبعون في سجون الاحتلال منذ أعوام طويلة ولا سيما النساء والأطفال
وكما يظهر من سير أحداث المعركة فقد تحققت الأهداف كاملة، ففي سياق الرد على الاعتداءات كان رد المقاومة قاسياً جداً لم يعهده الكيان منذ حرب أكتوبر 73، تمّ قتل ما يقارب 3 آلاف صهيوني منذ السابع من أكتوبر والعدد مرشح للزيادة، كما نجحت المعركة في الوقوف في وجه تهويد القدس والاستيلاء على الأقصى، حيث أفادت بعض التقارير أن الكيان الصهيوني اقترب جداً من اعلان استيلائه على الأقصى، وحدثت عدّة فعاليات للصهاينة تم رصدها في هذا السياق، وما فعلته حماس أربك كل هذه المحاولات، وأجّلها على الأقل زمناً طويلاً، هذا إذا لم نقل أنه قضى عليها، فعدد لا بأس به من أفراد المنظمات الصهيونية التي كانت تعمل على الاستيلاء على الأقصى غادرت فلسطين نهائياً إلى غير رجعة، حيث أدركوا أن قيامهم بهذا الفعل سيفجر عمليات كبيرة تفوق في قوتها ما فعله طوفان الأقصى، وأن الأقصى سيحرك جموع الفلسطينيين كلهم في غزة والضفة، وقد أوضح الطوفان أن تهويد الأقصى لا يمرّ دون دماء كثيرة قد تشعل المنطقة وتفيض فيها دماء الصهاينة أكثر من غيرهم وينتهي حلمهم إلى الأبد، وقد أعاد هذا الهجوم ترتيبات الاستيلاء على الأقصى سنوات للوراء، وصار من الصعب الحديث عنه في السنوات القليلة القادمة هذا إن بقيت إسرائيل
يبقى الهدف الخاص بتحرير الأسرى، هذا الهدف تم تحقيق جزء منه في (صفقة الهدنة) التي ركزت على النساء والأطفال (الهدف الرئيسي للمعركة)، واستكمال عمليات التبادل سيبقى مرهوناً بمجريات المعركة، ولكن المؤشرات تقول إنها ستتحقق، وسيكون ذلك قريباً جداً، ويتوقع أن يكون التبادل في المراحل المقبلة أضخم من حيث الفلسطينيين المفرج عنهم، لأن التبادل سيكون على الجنود والقادة وربما المعلومات والأجهزة المفرج عنها …
ملامح أخرى للانتصار
أحد أهم مؤشرات الانتصار الأخرى هي خسائر الكيان، اليوم الكيان الصهيوني دخل معركة لا يعرف تحديداً ماذا يريد منها، وهو متخبط في رسم أهدافه وخطواته، وبعد 100 يوم لا يستطيع أن يعلن أنه حقق أي شيء، بل إنه على عكس حماس أعلن أهدافاً كبيرة غير واقعية، فرسم هزيمته منذ أول يوم في القتال، لا يمكن لا نظرياً ولا تطبيقياً إنهاء المقاومة في غزّة، ولا تهجير سكانها، إلا إذا كان الكيان مستعداً لحرب طويلة تحت الأرض وفوقها قد تستمر سنوات، وستسبب له خسائر مهولة ستكون كفيلة بانهياره عند إتمام المهمة. ويبدو من تصريحاته أمس أنه غير مستعد لهذا النوع من المعارك فقد بدأ بحسب تصريحات لوزارة الدفاع الصهيونية بسحب جنوده من غزة، حيث أعلن المتحدث العسكري الإسرائيلي لنيويورك تايمز أن كثافة العمليات قد بدأت بالتراجع، وأنهم سيواصلون خفض عدد القوات في غزة …
تعرض الكيان لخسائر كبيرة في الأرواح لا يعلن عنها بشكل كامل لكيلا تتعمق أزمته الداخلية، كما ضُربت الروح المعنوية والنفسية للصهاينة في مقتل على مستوى الجيش وعلى المستوى الاستيطاني، فلا يمكن أن يعود الكيان مكاناً آمناً، يستطيع المستوطن أن يحدد فيه أهداف استراتيجية للبقاء. المقاومة أكّدت أنها حتى في أصعب الظروف قادرة على المواجهة والانتصار، لا يمكن بعد اليوم أن ينام الصهيوني بهدوء دون أن يخشى خروج المقاومة في أي لحظة لقتله وتحطيم أحلامه ومشاريعه.
ضرب طوفان الأقصى البعد الاقتصادي للكيان بشكل مدمّر، حيث لم تعد الدولة الصهيونية مكاناً آمناً للاستثمار الاقتصادي، بل أصبحت مكان تهرب منه رؤوس الأموال بدلاً من أن تأتي إليه
ضرب الطوفان الطريق الاقتصادي الذي كان سيرسم طريقاً جديداً للتجارة والغاز يمرّ من فلسطين وسبب خسائر كبيرة للكيان وللدول التي كانت تود المشاركة في هذا الطريق، وذلك بعد أن أعلن أن الكيان دولة غير آمنة كلياً
المعركة تستنزف الكيان بطريقة غير قابلة للإصلاح …، وطول فترة المعركة يساهم في انهيار الكيان بشكل كامل، حيث تكلّف المعركة يومياً بحسب وسائل الإعلام ربع مليار دولار بين خسائر حربية مباشرة وخسائر بسبب توقف العجلة الاقتصادية نتيجةً لاستدعاء الجنود الاحتياط، والرقم مرشح للزيادة عند حساب الخسائر بعد نهاية المعركة
تسبب الطوفان بخسائر بشرية هائلة فبحسب أدنى الإحصائيات غادر الكيان نحو نصف مليون مستوطن، هؤلاء المطرودون يحسبون بنفس حسبة القتلى، يعني أن وجودهم من هذه الأرض انتهى تماماً، وعلى الأقل ربعهم لن يفكر بالعودة، فلدينا 25 ألف شهيد مقابل 125 ألف مطرود بالحدود الدنيا، هم بحكم القتلى الذي أنهيت وجودهم من أرضك، وهذا ما يريده الفلسطينيون، القتل لا يعنيهم وإنّما يعنيهم أن يغادر المستوطنون أرضهم، وألا يعودوا إليها، وهذا أيضاً ما يفهمه قادة الصهاينة لذلك يمعنون في القتل لأنهم يدركون تعرضهم لمقتلة غير مباشرة، وأن الأرقام في صالح الفلسطينيين على كل المستويات …
انهارت سمعة الأسلحة الصهيونية والتكنلوجيا الصهيونية التي كانت من الأفضل على مستوى العالم، هذا الانهيار له بعد اقتصادي وله بعد معنوي، حيث لم يعد أحد يثق بهذه الصناعات، ولا بقدرتها على حماية أفراد شعبها، لأنها انهارت أمام أسلحة بدائية مصنعة محلياً في منطقة محاصرة!!!!
هناك فشل استخباراتي عسكري رهيب لا يمكن أن يتم إصلاحه وشرخ أحدثته حماس في اختراقها للأنظمة الاستخباراتية المتطورة التي يعتمد عليها الكيان، مقابل نجاح كبير للمقاومة في عدم السماح للعدو باختراقها أمنياً واستخباراتياً، وقدرتها على مفاجأته وإرباكه وصفعه بقوة. والكثير من مسؤولي هذا الكيان سيدفعون الثمن اثناء المحاسبة بعد انتهاء المعركة، هذه المحاسبة التي ستزيد الشروخ والانقسامات الموجودة قبل عملية الطوفان وستسرع في انهيار دولة الكيان وتحرير فلسطين
كل هذه المؤشرات والملامح وغيرها ترسم صورة النصر التي حققها أبطال الطوفان، الذين ظهروا بمظهر الفرسان والنبلاء وأصحاب القضية، يقاتلون وهم حفاة، شجعان، يتفوقون في الإعداد النفسي والبدني على أعدائهم، ولا يخافون من جبروت الترسانة العسكرية ويدمرونها مراراً وتكراراً من المسافة صفر، في اشتباك مباشر بين المقاتل الفلسطيني وآلة الحرب وما تحمله من مقاتلين صهاينة، ليتفوق في النهاية المقاتل الفلسطيني شبه الأعزل، وينتصر مرة بعد مرة …
هذا النصر حدث، لا شيء منه ينتظر الحدوث، كل ما تحدثنا عنه تحقق داخل أرض المعركة، وهناك نصر آخر خارج أرض المعركة سنتحدث عنه في مقال قادم، أبرز مؤشراته هو قدرتنا على قول أن المستقبل سيكون خالياً من الكيان الصهيوني، هذا التصور لم يكن متاحاً قبل طوفان الأقصى إلا عبر الأمنيات، أما اليوم فهو واقع نستطيع أن نبصره، لذلك لا يمكن أن يستلب هذا النصر مهما كانت النتائج المستقبلية للمعركة، ومهما حاول المرجفون والخونة الحطّ من شأن هذا القتال في تاريخ الصراع مع الصهاينة، هذا النصر سيكون نقطة فارقة سيتحدث عنها الأبناء والأحفاد يوماً ما كنقطة البداية في زوال إسرائيل، لأن إسرائيل لن تكون موجودة لفترة طويلة قادمة.
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.