تعتبر منطقة الغوطة الشرقية إحدى بوابات العاصمة دمشق؛ وتقدر مساحتها بنحو 110 كم2، وبلغ عدد سكانها عام 2018 نحو 400 ألف نسمة، بعد أن كان يتخطى مليون ونصف المليون قبل العام 2011؛ وذلك بعد تعرض أغلب سكانها للتهجير القسري الى مناطق الشمال السوري الخارجة عن سطوة نظام الأسد في الفترة ما بين ٢٣ اذار و١٤ نسيان من العام ٢٠١٨.
خرجت الغوطة الشرقية عن حكم نظام الأسد في منتصف العام ٢٠١٢ وباتت ملجأً آمناً للثائرين في عديد من مناطق دمشق وريفها، لتتعرض في العام ٢٠١٣ لمرحلة فريدة من أحداث الثورة وذلك بأن تعيش حصاراً خانقاً محكماً من جميع جهاتها، فُرض من نظام الأسد على هذه المنطقة لإخضاع أهلها والضغط عليهم في محاولة فاشلة منه لإعادتها إلى حكمه.
قبل عملية التهجير شن هذا النظام مدعوماً بالطائرات الحربية الروسية والمليشيات الإيرانية الطائفية هجوماً واسعاً على منطقة الغوطة استمر لـ 45 يوماً، استخدم نظام الأسد وحلفاؤه بحق المدنيين المحاصرين كافة أصناف الأسلحة الثقيلة والمحرمة دولياً كـ النابالم الحارق والكيماوي والخانق والغازات السامة، حيث أدت عمليات القصف الأخيرة ما قبل التهجير إلى مقتل 1433 مدنياً بينهم 233 امرأة و291 طفلاً و12 متطوعاً مدنياً، وإصابة 3607 مدنياً، بينهم 975 طفلاً و790 امرأة، و31 متطوعاً مدنياً، وفق منظمة الدفاع المدني السوري.
جميع من خرج من الغوطة مهجراً حمل في جعبته قصصاً مأساوية نحتاج مجلدات لحصرها، و في ذكرى التهجير يعيد المهجرين إحياء بعض هذه القصص ليحافظوا على سردية ثورتهم و مأساة تهجيرهم، و نروي هنا بشكل مختصر بعض أبطال تلك القصص منهم الشاب الدمشقي ضياء الميداني الملقب بـ أبو علاء، ٢٥عام، من سكان حي الميدان وسط دمشق، فرَّ ضياء مع والده وأخيه من بطش عناصر فروع أمن نظام الأسد إلى الغوطة الشرقية في مراحل متقدمة من عمر الثورة السورية، وأثناء وجوده على إحدى خطوط النقاط العسكرية الساخنة تعرّض لإصابة بليغة سببت له إعاقة في يده ما زال حتى اليوم عاجزاً عن علاجها، و بعد كل العذاب والحصار والأوضاع الصعبة التي عايشها في منطقة الغوطة الشرقية أتى قرار التهجير ليدمر كل آمال عودته إلى منزله وسط دمشق ولقاءه بوالدته وأخوته.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
انطلقت قافلة التهجير التي التحق بها ضياء في 26 آذار، كانت رحلة تهجيره إلى شمال سوريا شاقة جداً، إذ كان ينتابه الخوف بسبب ما سمعه سابقاً عن بطش نظام الأسد بقافلات المهجرين السابقة، كما كان يتوقع أن تتعرض القافلة للاستهداف من الطيران المروحي الذي يرافقها، وأكثر ما كان يخشاه تعرضه للاعتقال، وصلت القافلة إلى محافظة طرطوس بعد ساعات طويلة تعمد النظام المماطلة و التوقف لفترات استفزازاً للمهجرين، هناك قامت بعض المجموعات الطائفية الموالية المسلحة برمي الحجارة على الحافلات، ما تسبب بتحطم الزجاج وتبعثر الشظايا بين المهجرين، اخترقت شظايا زجاجية صغيرة عينا ضياء، فأصبح عاجزاً عن الرؤية، متألماً وسط توترٍ رهيب وصراخ للنساء والأطفال من حوله، توقف سائق الحافلة عن القيادة وترجّل ليتفقد خسائر الهيكل الخارجي، إلا أن المهجرين أجبروه على العودة ومتابعة المسير بسبب ذعرهم من تعرضهم لاعتداء جديد قد لا يحمد عقباه، عند اقتراب سيارات الإسعاف التابعة لمنظمة الهلال الأحمر التابعة لنظام الأسد، رفض ضياء التوجه إليها والعلاج فيها بسبب عدم ثقته بتلقيه العلاج اللازم على يد كوادر يشتبه أنهم تابعون بشكل مباشر للفروع الأمنية بنظام الأسد، وفضّل أن يبقى متألماً بعينه النازفة حتى وصل إلى قلعة المضيق و منها إلى مشفى باب الهوى الحدودي، وهناك سرعان ما أجرى له الأطباء عملية جراحية عاجلة.
إسرائيل تتعهد بطرد إيران وحزب الله من سوريا
لا تنتهي قصص المهجرين من مختلف المناطق السورية، ونار آلام التهجير لا تخبو لها جذوة ولا يهدأ لها أوار، ففي كل عام يستذكر الأهالي مرارة الطريق التي سلكوها وصولاً إلى شمال سوريا، ويستعرضون المواقف الصعبة التي تعرضت لها قوافلهم من شتم وإهانات ورمي بالأحذية والحجارة وإطلاق الرصاص الحي.
ما تزال آثار الإصابة التي تعرّض لها الطفل صالح ذو الثمانية أعوام أثناء رحلة التهجير ترافقه حتى اليوم، انطلق صالح مع والدته وأخيه وأخته من أجل اللحاق بوالده الذي سبقهم إلى شمال سوريا، كان سعيداً جداً أثناء مشاهدته لمناطق خارج الغوطة الشرقية، إذ كان يستمتع بتفاصيل جديدة لم يراها سابقاً، إلا أن أصوات الرصاص الحي قطعت متعته المؤقتة وذكرته بأصوات القصف، وبعد ثواني أدرك أنه تعرض للإصابة.
تصف والدة صالح ذلك الموقف بلحظات من الهلع والذعر، حيث توقع الأهالي أنهم لن يصلوا إلى وجهتهم بأمان، وربما قد يتم قتلهم تباعاً في الطريق، لا سيّما بعد أن تعرض طفل أخر وامرأة لإصابات بليغة.
عدّة رصاصات اخترقت جسد صالح بمنطقة الورك والقدم، وتسببت بحرق العصب وقطع الوتر، عجز الأطباء عن اخراج المقذوفات بسبب بنيته الضعيفة وفقدانه كميات كبيرة من الدماء خلال الطريق من طرطوس حتى مشافي شمال سوريا.
بخلاف ضياء، فضّلت والدة صالح اللجوء لسيارة إسعاف منظمة الهلال الأحمر علها تكسب بعض إجراءات الإسعافات الأولية، إلا أن المسعفين قاموا بربط مكان الجرح النازف فقط، فكان خيار ضياء الصبر و البقاء في حافلة التهجير راجحاً.
منذ خمس سنوات حتى اليوم أجرى صالح عدّة عمليات جراحية، و ما زال يحتاج إلى علاج طويل الأمد وأحذية طبية خاصة بسبب الإعاقة بقدمه وآثارها النفسية التي انعكست عليه سلباً.
يُذكر أن نظام الأسد مارس التهجير القسري عقب عمليات القصف والتدمير ضمن منهجية ملحوظة لتحقيق التغيير الديمغرافي، وانتقل حالياً للتهجير الناعم عبر فرض سياسات رامية لإفقار السوريين أكثر، ودفعهم على الهجرة إلى أي مكان في خارج سوريا.