لا أريد أن أبدو متفائلاً جداً بخصوص هذه النتيجة، لذلك حرصت على استعمال لفظة (كركب) بدلاً من أجهض أو أي مرادف آخر، لقربها من القارئ عموماً، ولأنها أكثر مصداقية في واقع الحال، ذلك أن النتائج تبدو متأخرة.
كتبت في 4 مقالات سابقة تحليلاً لمعركة طوفان الأقصى من حيث النتائج المُفضية إليها، وتحدثت عن الانتصار الكبير لذي حققّه الطوفان بشكل مباشر بالنسبة للقضية الفلسطينية، وللقضايا ذات الصلة بها، وتطرقتُ لمعادلة القوة التي تمت إدارة المواجهة بها، ولا أريد التكرار هنا، ولكنّي أشير إليها لمن أراد أن يقرأ هذه المقالات، لأن كلّ الأفكار السابقة وأفكار هذا المقال متصلة ببعضها بشكل أو بآخر.
ليس جديداً عند الكثيرين معرفة أن الكيان الصهيوني في فلسطين هو مركز استعماري يمثل سطوة الغرب (الأمريكي بشكل رئيسي) في الشرق الأوسط، وأن البعد الديني (التوراتي-اليهودي) هو أداة للمشروع تمّ استخدامها بطريقة جعلتها تظهر وكأنها أحد الأسس في المشروع الصهيوني، وركيزة صارت تقوم عليها نظريات مخلصة لها، وأخرى مدركة أنها تستخدمها.
إنّ المشروع الصهيوني هو مشروع سيطرة غربي (أمريكي) على المنطقة، ولا غرابة في أن جميع خرائط الشرق الأوسط الجديد هي أمريكية المنشأ، الهدف الرئيسي منها السيطرة على هذه المنطقة الحيوية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فهي منطقة تمثل قلب العالم، وكلّ الإمبراطوريات التي سيطرت على العالم في التاريخ، لم تُعرف كإمبراطوريات حاكمة وذات قوة كبيرة ما لم تسيطر على هذا الشرق، ومثال ذلك الإمبراطوريات الهندية والصينية واليابانية القديمة، لم يتم تعريفها كقوى عالمية وإنما كقوى إقليمية، بينما كانت الإمبراطورية الفارسية والرومانية والإسلامية العربية والمغولية والإسلامية العثمانية، امبراطوريات قادت العالم لأنها استطاعت السيطرة على هذه المنطقة الحيوية.
وفي سبيل السيطرة الغربية الأمريكية على العالم كقطب واحد متنفذ، كان لابدّ من دعم هذا الكيان الذي لا ينتمي للمنطقة وجعله قائدا عليها، ومنذ وجوده سارعت أمريكا لإعلان تبنية، وقطعت الطريق على الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة من إعلان تقدمه الامبراطوري عليها، بتبني ذلك المشروع الذي سيسمح لصاحبه بفرض السيطرة على العالم، لذلك اتجه الاتحاد السوفيتي لدعم بقية القوى التي تحارب هذا المشروع لضمان تواجده الحيوي في تلك المنطقة ولكن عبر دعم متوازن، لأن القوى في تلك المنطقة لا تمثل امتداداً حقيقياً للغرب وثقافته، على عكس الكيان الصهيوني الذي ولد من تلك الثقافة، وكانت هناك فرصة دائمة لدى السوفييت في الوصول للسيطرة عليه، وإعلان الأبوة، لم يودوا أن يخسروها تماماً.
إن تحقيق السلام بين الكيان الصهيوني والمحيط الإسلامي لم يكن يوماً هدفاً للمشروع، لأن هذا السلام سيعني (هدنة) حتى لو تمت كتابته بأغلظ المواثيق، والهدنة تعني إيقاف الاستنزاف العسكري لذلك المحيط، والتفرغ لبناء القوة الداخلية والخارجية له، مما يجعل منه محيطاً قوياً لن يقبل باستمرار وجود محتل على أرضه، ولو كان هناك معاهدات سلام، فكان الشرط الأساسي للسلام هو (التطبيع) الانتقال من مرحلة الهدنة إلى مرحلة التعايش والاعتراف بالحقوق المغصوبة كحق للمغتصب، بالإضافة لإيجاد حكومات ونخب تضمن عدم بناء القوة الداخلية وتستثمر فقط في الأمن والرفاه والتبعية للعولمة والثقافة الغربية، كما تبقي الجيوش العربية تابعة للغرب في العقلية والتنظيم والتسليح، مما يجعل هذا الكيان قائداً للمنطقة، ويجعل المنطقة تابعة له وسوق كبير لمنتجاته وثقافته (التي تمثلها الثقافة الغربية والعولمة الخاصة بها)
وهنا لا بدّ من إضاءة حول الجيوش العربية، التي تمّ إنشاؤها وفق نظرية غربية في التنظيم والتفكير والتسليح والتخطيط والاستراتيجية، مما يجعل هذه الجيوش مكشوفة تماماً أمام القوة الغربية، وغير قادرة على مواجهتها مهما بلغت قوة الترسانة العسكرية، بسبب قولبتها في أنظمة تُحدد فيها نقاط القوة والضعف بدقة ومن السهل ضربها وإجهاضها تماماً بأقل التكاليف، ناهيك عن الحرص على تبعية هذه الجيوش بشكل مباشر للغرب ووكلائه الصهاينة في المنطقة.
فالجيوش غير فعالة في الحروب الخارجية وقد تمّ انشاؤها لهدف أساسي ووحيد، هو مجابهة الشعوب وحركات التحرر الوطني، وهذا ما يجعل فصيلاً كحماس مربكاً للقوى العالمية أكثر من كل جيوش المنطقة، لأنه مهما كان ضعيفاً فإنه لا يخضع للنظريات والقولبة الغربية، وبالتالي فإن ضربه في مقتل وإجهاضه مهمّة غاية في الصعوبة ومكلفة بالنظر إلى حجم قوته العسكرية.
ومع إدراك صعوبة أن يحكم المنطقة كيان غريب عنها ثقافياً ودينياً بشكل مباشر، مهما بلغ التطبيع من قوة في المستقبل، تم إيجاد (وكلاء) لهذا الكيان من أبناء المنطقة، يرتبطون بالكيان عضوياً عبر التطبيع ومعاهدات السلام ومفردات التعايش، ويقودون المنطقة بشكل كامل نحو هذا الخيار بقوة اقتصادية هائلة، بعد تدمير جميع المراكز التاريخية التي قادت المنطقة في الماضي وتفريغها من أي قدرة على لعب هذا الدور، وإفقارها وإشغالها بالبحث عن الطعام ومفردات العيش والصراعات الإيديولوجية الطائفية الداخلية، وذلك عبر تسليم مراكز قيادتها لقوة أخرى خارجية يسهل التعامل معها، وتلتقي مصالحها مع مصالح المشروع الصهيوني.
إن المسؤولية التاريخية عن فلسطين التي يشعر بها شعوب مصر والأردن وسوريا والعراق والحجاز ثمّ تركيا، تختلف عن المسؤولية التاريخية التي يشعر بها بقية المسلمين تجاه بيت المقدس، فالقرب الجغرافي اللصيق، بالإضافة لكون هذه الدول هي وريثة تاريخية لدول كانت تمتلك السيادة على بيت المقدس ، تجعل محاولة تدجين هذه الشعوب ومصالحتها الكاملة وتطبيعها مع إسرائيل ضرب من العبث، لذلك اختار الغرب دولاً أخرى كانت وما زالت هامشية في هذا الصراع وأعطاها قوة القيادة، وطلب منها القيام بدور قيادة المشروع الصهيوني في العالم الإسلامي.
وهذا ليس تقليلاً من قدرة شعوب تلك الدول على المقاومة، أو تقليلاً من انتمائها لفضاء الأمّة الإسلامية ودفاعها عن مقدساتها، بل ربما تكون شعوب تلك المناطق من أكثر الشعوب إخلاصاً وعملاً، ولكن واقعها الجيوسياسي يحول دون قدرتها على مقاومة الطغمة الحاكمة بشكل كافٍ وتحقيق الانتصارات قبل وصول الإمدادات الغربية التي ستجهض أي محاولة لها قبل اقترابها جغرافياً من الكيان الصهيوني.
وإن إدراك هذه الحقيقة في اللاوعي عند غالبية الشعوب المسلمة يفتر الهمّة في ظل ما تعيشه هذه الشعوب من تحدّيات خاصة، أو يقنعها بدورها غير المباشر تجاه القضية المركزية للأمة، وهذا ما يجعل جميع أنظار العالم الإسلامي تتطلع لحراك شعوب الطوق (أو شعوب أكناف بيت المقدس)، لكي تصل مددها وإخلاصها وأرواحها بذلك الحراك وتشارك بتحقيق نصر الأمة كاملة على هذا المشروع، فهذا الطوق أيضاً غير قادر على المواجهة وحيداً بشكل منفرد دون مدد، ضد المشروع الغربي ووكلائه الصهاينة في المنطقة، ذلك لأن مدد المشروع الغربي متصل ويمثل أمّة أخرى، لذلك لا بدّ من مواجهته بمدد متصل وبقوة أمّة كاملة، ولكن على هذا الطوق عبء كبير في قدح الشرارة وأخذ المبادرة وبدء الضربة الأولى، وهذه أمانة هذه الشعوب وواجبها ولا ينفع أن تتخلى عنها، فالأمّة متطلعة إليهم في كل وقت.
يتضح الآن لماذا حرص الغرب على إبقاء هذه المنطقة غارقة في المشاكل والأزمات، ويحرص على عدم إيجاد حل لمشاكلها، وإغراقها أيضاُ بالصراعات الإقليمية والصراعات البينية، وعدم التسامح مع أي حكومة أو إدارة لا تنتمي بشكل مباشر للمشروع الصهيوني وتعلن ولاءها له.
ويتضح أيضاً لماذا حرص المشروع الغربي على تهجير شعوب أكناف بيت المقدس من أوطانهم، ونثرهم في كل بقاع العالم، فهم يريدون محو الذاكرة التاريخية التي يكتنفها هؤلاء الناس، وتفريقهم، وتغيير أولوياتهم، وضرب عقائدهم عبر السماح لكل الإيديولوجيات بالعبث في بلادهم، والإصرار على العلمنة التي تقطعهم عن تاريخهم ومقدساتهم، مقابل إيجاد أوطان بديلة لهم، وتوطين آخرين في أرضهم.
طوفان الأقصى كركب معادلة التطبيع والقيادة التي كان المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني ووكلائه يعملون على تحقيقها، لأنه أعاد ربط أفراد الأمّة ببعضهم، وقدح شرارة المبادرة من المركز، وعقّد خرائط السيطرة والنفوذ، وأعطى الفرصة لدول قوية في العالم على استغلال الفوضى لإيجاد مكانها في الخارطة، والاستمتاع بضرب المركزية الاستعمارية الأمريكية التي كانت تسيطر وحيدة، وأعاد فتح البازارات لإمكانية تغيير أبوة هذا الكيان في لحظة ضعفه وتخلخله وضعف القوة التي تدعمه في المنطقة، وصعود تيارات مختلفة داخله غير مضمونة الانتماء.
لذلك تدافع الولايات المتحدة عن حكومة نتنياهو، لأنها تخشى البديل، وتخشى تفكك صلابة الكيان وغرقه في النزاعات الداخلية والتي ستؤدي إلى انصراف دول المنطقة عن مشاريع السلام والتطبيع وتحولها إلى معسكرات ترغب بإفنائه أو إعادة انتاجه بصيغة جديدة قد لا تلبي ما هو مطلوب منه، وبالتالي ستكون خطوة في انهائه بشكل ما عاجلاً أو آجلاً، وبذلك تخسر الولايات المتحدة سيطرتها الحيوية على الشرق الأوسط، أو قد تضطر لدخول حروب كبيرة ستكون آثارها كارثية على الجميع وربما تكون أمريكا في النهاية هي الخاسر الأكبر.
عموماً يبقى ما سبق قراءة ممكنة الحدوث، وربما يتمكن الغرب من لملمة مشاكله وحل أزمته، واستعادة القوة في مركزه الاستعماري في المنطقة ومتابعة مشروعه في تطويع المنطقة خلف قيادة الصهاينة ووكلائهم، ولكن من المؤكد أن هذا لن يكون بالسهولة نفسها التي كانت قبل الحرب، وأن الكركبة التي حققها الطوفان حقيقية، ومستمرة، وهي بشكل أكيد خطوة مهمة في إحداث انهيار في المشروع الغربي وفي الشرق الأوسط الجديد الذي يرغب به، وقد حقق الطوفان انتصارات كبيرة تحدثت عنها سابقاً، وهذه الكركبة واحدة منها.
بالإضافة لما لم يكن متوقعاً أبداً، وهو نقل تلك الكركبة إلى مراكز الدول الاستعمارية بسبب ما يفعله هذه الكيان من جرائم إبادة تجاه الفلسطينيين، وصدمة الأجيال الجديدة بوقاحة ازدواجيه المعايير والقيم التي تتبناها النخبة في العالم الغربي، مما نقل جزء من المواجهة إلى أرض العدو، وفتح احتمالية الخلخلة في البنى الداخلية للدول الغربية وثقافتها، واحتمالية تفكك القوى المسيطرة وانقسامها لخوفها على مصالحها، مما قد يعني بدء انهيارات في النظرية الغربية الحاكمة للعالم وفي القوة التي تساندها واحتمالية ظهور تيارات ونظريات وقوى جديدة على الساحة العالمية، أو إعادة ظهور للقوى التقليدية بأهداف وأشكال جديدة بعد انقسامها وتضارب مصالحها.
لدينا فرصة ليست ضئيلة تجاه العمل على التخلص من التبعية للغرب، التبعية السياسية والعسكرية والثقافية بالدرجة الأولى، هذا التخلص حتى لو كان تجاه الفراغ فإنه سيمتلك فرصة بتحقيق النهوض الحضاري، ذلك أن الإصرار على تحقيق النهضة من خلال التبعية للغرب وملاحقته، وتبني أساليبه وقيمه هو ضرب من الخيال، لأن فلسفة الحضارة الغربية قائمة على تبعية بقية الحضارات لها، وعلى معياريتها بالنسبة للقيم والحضارة والمفاهيم، ولن تسمح لبقية الحضارات (التابعة) بتجاوزها، وسيحافظ الغرب على تقدمه وتفوقه مهما منح أتباعه من المظاهر الزائفة والخاوية للقوة والتقدّم، فلا بدّ من المواجهة، ولا بدّ من إعلان العصيان وهدم المعيارية الغربية، ونقد القيم الغربية وتعريتها، والتقدم بنموذج حضاري خاص بنا، يستند للتاريخ والثقافة التي نصدر عنها، لا التي تستبد بنا بقوتها وتسلّطها.