قراءة في رواية “مستر نوركة”: للروائي نوزت شمدين

زكية خيرهم

301

على الرغم من الصراعات العديدة، كانت الرواية العراقية مساحة معبرة نابضة بالحياة والحيوية. يستشفها القارئ من خلال ما يظهره الروائي العراقي من براعة أدبية مذهلة وتنوعًا في طبيعة تناول الموضوع الروائي، متنقّلا بين الأنواع والأجواء لالتقاط صورة الأمة المتغيرة بهموم ثقافتها.

والكاتب العراقي بداخله كمّ من الحلم بتغيير الواقع، واقع أنهكته الحروب وأفقدته بوصلته وأصبح شعبه يهاجر منسلخاً من ماضيه العريق الذي يعاني العنف والتهجير، فأصبحت الرواية العراقية الوسيلة الأفضل في التعبـير الأدبي، ذلك الترمومتر الذي يقيس درجة حرارة المجتمع لما يحمله من حيوات الناس وأحلامهم وهمومهم ومشاكلهم وقضاياهم الوطنية والقومية والإنسانية وهو ما تعرضه رواية ” مستر نوركه: للروائي المتميز نوزت شمدين، والصادرة طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان 2021.

 

فمن الصفحة الأولى تشد الرواية القارئ فارضة نفسها بقوة إثارتها وحثّها لمتابعة إحداث وتصرّف شخصياتها إذ تبدأ من نقطة مركزية في المنتصف لتتحرك الى الخلف مما تجعل القارئ في حالة تلهّف ورغبة في التعرف على التفاصيل وعن الاحداث المتلاحقة في استطراد وكأنها لا نهائية.

 

ابتداء من المشهد الأول واحتفال نافع بطل الرواية وأخته واجدة بالعيد الوطني النرويجي في العراق بكل طقوسه من لباس البوناد والعلم النرويجي وترديد النشيد سوية بالنرويجية: “نحن نحب هذا البلد … هذه أرضنا التي تلوح في الأفق”، احتفال في شهر لاهب، مخالف تماما لطقس النرويج البارد حتى في صيفه لتبدأ حكاية نافع بطل الرواية الذي تعرّض لقسوة الأب غانم القصاب والتي بسببها تعرض لمرض نفسي “الشيزوفرانيا”  والوالد نفسه عاش حياة قاسية أيام المجاعة وكان والداه يأكلان لحم البشر  ذلك أيضاً أثر في نفسيته طوال حياته، فظهرت آثار عقدته على زوجته وابنه نافع هذا الأخير الذي عاش قمعا تسلّطيا تراتبياً.

واجدة أخت نافع التي ضحت من أجله وكرست حياتها للوقوف بجانبه ومساعدته على تخطي مرضه النفسي، شخصية فاضل الموظف في المكتبة العامة والمساعد في استعارة نافع للكتب لنتفاجأ في آخر الرواية أنه شخص وهمي، شخصية المغامر النرويجي ثور هايردال الذي سيكون السبب الرئيسي في تكوين فكرة انتماء نافع لعائلة هنريك أبسن بعدما شبه حياته بحياة هذا الكاتب.

 

منذ البدء اشتغل الراوي على تأثير صورة وسلوك شخصية نافع بطابعها الانطوائي نتيجة العنف وقسوة الأب المسيطر والقامع، كونت عنده حالة نفسية شخصها الطبيب بالشيزوفرانيا، والتي بسبب هذا المرض يتوهم بأنه شخص من عرق آخر وشعب غير شعبه وأنه من سلالة الكاتب العالمي النرويجي هنريك ابسن.

شخصية نافع خلّفت ردود أفعال في الرواية كونه بطلها صانع للرفض والانطوائية وصانع لحاجز بينه وبين المجتمع الذي كان يعاديه مما جعله يرفض العيش فيه والانتماء اليه رغم عودة “المجتمع” للتقرب إليه والدعاء له بالخير و” محبته” بسبب تقليده لأصوات من ماتوا من ذويهم وكأنه آلة تسجيل.

 

هنا وضع الكاتب إصبعه على تلك ” القوقعة البشرية” كما يقول د. علي الوردي، ذلك المجتمع الذي يرى الدنيا بمقدار عواطفه وملذاته، فالحسن في رأيه حسن أنه محبوب لديه والحسن ينقلب قبيحا حالما يصير مكروها أو مؤلماً، طبيعة البشر التي تطغى عليها الأنانية.

شخصية نافع تلك الشخصية النامية في الرواية التي تستثمر الحدث والحدث يستثمرها في كافة النسيج الروائي لتُحقّق ما يريده الراوي وما يتعاطف معه القارئ منذ الصغر في حياته الدراسية إلى أن وصل لسنّ متقدم من العمر.

 

كل رواية تحمل مقداراً معيناً من شخصية الكاتب أو قد تكون وجود علاقة مباشرة بين شخصية ما والكاتب، الكاتب موجود بنسبة ما بمكان ما بشخصية ما ومن جوانب مختلفة في الرواية.

ويقول الروائي نوزت شمدين على لسان بطل الرواية: “هو وأنا متشابهان إلى درجة كبيرة، ليس بتفاصيل متطابقة إن جئت للحقيقة، وهذا طبيعي بحكم الفوارق الزمنية والمكانية، وكذلك البدنية إن صحّ القول. فهل أنا مجرّد فرع من فروعه وورثت عنه صفاته الروحية بمجملها، أم إنني تكرار له في محيط آخر عن الذي نشأ وعاش فيه وعلي التقيّد بظروف المكان والزمان اللذين أتواجد فيهما.

وكل رواية مهما بدى عالمها البنائي والشخصياتي موضوعيا فهناك شيء من السيرة الذاتية لكاتبها حاضر في أبطالها جميعا، موجود في كل سطر من سطورها كحياة شخصية فردية.

 

شخصية نافع المحور الرئيسي في الرواية جمعت بذور الصراع وتأويلاته، منذ السطور الأولى نستشف قدرة الكاتب على تمكنه من صنع الحكاية وبراعة السرد بطريقة تشويقية واحترافية في تسلسل الاحداث واللعب بالزمن وإظهار بعض المشاهد وكأنك تشاهد مسرحية.

_ مع من حربك إذن؟ سأله القاضي وأشار بيده لكاتب الضبط ليكف عن التدوين.

_ ” مثلما حارب جدّي، الظلم الواقع على المرأة وتفتق المجتمع والوجوه المتعددة التي يملكها الفرد الواحد. ” اسمح لي بأن أوضح لك هذا. الحروب المتوالية وسوء استخدام الدين ألبست الناس دروعا تقيهم المخاطر التي خبروها جيلا بعد جيل. فالكل يدعي المساواة واللحمة والأخوة بينما جدران عالية تفصل بين المساكن “.

” أنتم تحققون مع الشخص الخطأ، هنالك المئات من المجرمين الطلقاء يتجولون في هذه الأثناء بحرية كاملة في شوارع بغداد بحثا عن ضحايا، وهناك جيش أجنبي يحتلّ البلاد ويقتل بذريعة مقاومته الكثير من الأبرياء. وسياسيون يتهافتون على الكراسي ليلتصقوا بها مثل قرادات ستمتص دماء الشعب.”

 

في هذه الجزئية يوضح الكاتب صورة جلية للثقافة الواقعية عبر بعدها المكاني عبر تصوير أغوار النفس البشرية، والمحيط الذي يعرفه الراوي بطبقاته الاجتماعية، والوعي بالإنسانية والإنسان، وتصوير ضعفه بأزماته، بكل ما يحمله من توثرات تهدد وجوده، ومن صراعات تتحكم في مساراته، ومن مستقبل لا ملامح واضحة له.

هذا الواقع الدي سنلمسه على طول جسد الرواية وكأنك أمام مشهد سيتمائي، وأحيانا وكأنك تشاهد مشهدا مسرحياً تنقلك من حدث ماض الى آخر في الحاضر وكأنها تنتقل بك من أسفل الى أعلى أو العكس. مُهشّما المسار الزمني ليقدّم الكاتب للمتلقي غاية وهدفاً من خلال اكتشاف الحياة، والإنسان ومعرفة النفس والبحث عن مفهوم ما يحصل من حولنا ليس الهدف في تبليغ رسالة إنما في إشارة السؤال، والفكرة في عقل المتلقي بأسلوب راق، ولغة جميلة وشفافة، محققة التشويق المطلوب كما الترابط بين الشخصيات ومحققة نسيجاً منضبطاً ومتداخلاً، مع وضع الحكاية على ألسنتهم، بعيوبهم، بفجواتهم وثغراتهم التي على المتلقي أن يشترك في ملئ هذه الفجوات وفي سدّ هذه الثغرات، وفي استكمال نواقص هذه الشخصيات ليسير العمل في مسارات مختلفة ذلك بوعي واحترافية.

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط