كتاب عطب الذات.. إشكالية برهان غليون

المعتصم الخالدي

0 579

المعتصم الخالدي

يقول موفق نيربية في مقال له: إن الدكتور برهان غليون كان يتواصل معه بشكل شبه يومي قبل انتخابه رئيسًا للمجلس الوطني السوري؛ ليطلع على النقاشات الجانبية في الأمانة العامة للمجلس، ويذكر في المقال نفسه أن الدكتور غليون انقطع عن التواصل معه بشكل شبه كامل منذ انتخب رئيسًا للمجلس الوطني.

لم أورد هذه القصة التي ذكرها الأستاذ نيربية كي أبدأ مقالًا هجوميًا على الدكتور والباحث الاجتماعي في السوربون الفرنسية، ولا لتقييم كتاب غليون (عطب الذات)، فالتقييم ليس من مهمتي أو حقي، لكن هي المعضلة نفسها التي يقع بها المثقف السوري في كل منعطف وطني أو تاريخي تمرُّ به البلاد، تلك الإشكاليات التي لم يستطع مثقفونا التخلص منها أو حتى محاولة علاجها والوقوف عليها بشكل جدي، والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا يلجأ مفكر وباحث كبير إلى جلد الذات بتلك الطريقة التي قدم بها وجهة نظره وبعض الحقائق في كتابه (عطب الذات)؟ ومن يطلع على الكتاب سيقرأ بين كلماته حجم الندم داخل كاتبه، كأنه كتب بحبر ممزوج بمرارة فشل المشروع السياسي الغليوني وكم من (الغل) يعتريه تجاه الأنا السياسية للمعارضة السورية آنذاك، التي ساهمت بإفشال التجربة نحو بناء جسد سياسي قوي وموحد يقنع المجتمع الدولي ويكون بديلاً لنظام الأسد، ذلك المشروع الذي مات قبل أن يولد.

اقرأ أيضاً: شبان سوريون يحيون الفن المسرحي في أعزاز

يريد غليون أن يقول: إن المعارضة السياسية فشلت لأسباب عديدة في التقاط ما أسماها “(اللحظة التاريخية)، وامتلاك زمام المبادرة وإمساك الدفة وقيادة السفينة إلى ميناء الحرية، هو يعرف بأن بين تلك المعارضات ما صنع الحداد، ويعرف بأن إعلان دمشق (رياض الترك بالتحديد) لم يعجب به، وعندما وافق على انتخاب غليون رئيسًا للمجلس الوطني اشترط أن تكون مدة دورية قصيرة، بحيث لا تتعدى الشهر، وكان الاعتراض على شخص غليون نفسه. وهذا دليل إضافي على عمق الإشكالات بين تيارات المعارضة السياسية السورية، ولم يأتِ إصرار غليون ومن سانده على ضرورة أن يرأس المجلس إلا لشعور داخلي يعتريه ويداعب أحلامه السياسية، ولذلك حاول أن يستنسخ تجربة (مصطفى عبد الجليل، ومحمود جبريل) في المجلس الوطني الليبي، حيث إن كل من اجتمع في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر لحظة ولادة المجلس الوطني السوري عام 2011 ، وكل الأحاديث خاصة من جماعة إعلان دمشق كانت في سياق أن بشار الأسد سيسقط خلال أشهر، التمني الذي جعل غليون يحارب من أجل أن يتصدر المشهد ظنًا منه أن بديل الأسد في الرئاسة سيكون غليون نفسه، البعض يقول: إن غليون كان يتحدث في جلسات خاصة أن دولًا تراه مناسبًا لشغل الفراغ بعد رحيل الأسد، ليعود مفكرنا الكبير وينسب أسباب فشل المجلس الوطني إلى ما عدها شخصنة المواقف والاعتراضات من قبل البعض على شخصه وليس عمله، وكان يقصد رياض الترك تحديدًا، وابتعد عن تسميته مباشرة عندما يتطلب ذلك واستعاض بجملة زعيم إعلان دمشق في كثير من صفحات كتابه، واعتقد أن الخلاف الحاد بين رجلين زاد وترسخ بعد اندلاع الثورة.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

لقد كان (عطب الذات) آفة الثورة السورية؛ فيه التعطّش للمناصب، والنرجسية المفرطة، واللهث خلف المكاسب الذاتيّة والفئويّة، وغياب الإستراتيجية الجامعة والمشروع الوطني، وتقديم مصالح الأحزاب والجماعات على مصالح الثورة والشعب؛ ذلك هو عطب الذات الذي يحكي عنه برهان، مسميًا الأشياء بأسمائها، ومشهّرا بكل من تمثّلت فيه تلكم الأعطاب، بالاسم والكنية.

وإن شئت تعبير الصحافة قلت: لقد فتح برهان النار على الجميع، لم ينشغل برهان بسردية التآمر الدولي على الثورة السورية، ولا قوة حلفاء النظام، إنما كان يشير إلى الثوار أنفسهم، وإن شئت قلت إلى قاداتهم، إلى الإخوان المسلمين، وإلى جماعة إعلان دمشق، وإلى هيئة التنسيق، وإلى الضباط المنشقين، وإلى الفصائل المقاتلة، ولا أنسى العرعور الذي خصص له قسمًا مليئًا. لقد استدار برهان في كتابه هذا ليواجه الثوّار، ويقول هزيمتنا منكم لا من عدونا.

واعترف غليون بأن المعارضة افتقرت للعمل السياسي الحقيقي، ولم تكن لديها تجربة سياسية، حتى لم تكن لديها تجربة مدنية، وعاشت في أجواء إرهاب كاملة، كان من الممنوع مناقشة أوضاعنا السياسية، مشيرًا إلى أن “أهمية الكتاب لا تكمن في أسماء الأشخاص الواردة فيه، بل في العجز الكبير الذي مررنا به ولفت إلى أن “الأحزاب السياسية فشلت في تحقيق إطار سياسي، لم تكن هناك أي أحزاب سياسية حقيقية في سورية.. (إنما) تجمعات شخصية، وضحالة نخبوية سياسية”، وعدَّ أن هذه الأحزاب أصبحت من الماضي وانتهت.”
بالتالي لن يكون عطب الذات آخر كتاب يجلد ذواتنا أو يلخص سيرة ثورة لم تكتمل فصولها، ولا تجربة لمفكر أراد ما أراد وانبهر بالضجة الإعلامية التي رافقت اندلاع الثورة متغافلًا أكثر من غيره عن حقيقة الأرض والواقع الذي تخلى الجميع عنه في سبيل أنانية مفرطة ووردية الأحلام، تلك المخملية التي أفشلت عملية سياسية وسمحت للغول أن يتمدد، فضلًا عن ضياع الرؤى وتشتت الأهداف وترك الشعب يواجه مصيره بنفسه. تلك التجربة السورية التي ماتت حين ماتت.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط