كيف نبني الثقة لدى السوريين بأي مشروع سياسي؟

د. رغداء زيدان

110

عاد بي الزمان إلى إحدى النقاشات التي دارت مع بعض المهتمين والمهتمات حول سؤال كيف ننهض ومن أين نبدأ؟ وذلك في معرض النقاشات التي كانت تدور حول تحليل ودراسة أسباب انحطاط مجتمعاتنا وأساليب النهوض بها. وكان ذلك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

وأذكر أنه في تلك الفترة كانت تتحول تلك النقاشات إلى معارك فكرية محتدمة، لأن كل شخص كان يطرح فكرته الخاصة، فبعضهم يتحدث عن الاستفادة من الغرب وأفكاره، وآخر يقول بالعودة للدين وتعاليمه وتفعيل فضائله، وآخر يتحدث عن الحرية والديمقراطية ومحاربة الاستبداد، وغيره يدعو للعلمانية والمواطنة، أو يتحدث عن تصحيح الفكر والأخذ بأسباب العلم والتقنية…….إلخ.

لكن الملاحظ أنه لم يكن عند أحد فكرة عن شكل المجتمع المنشود، ولا عن سماته، ولا عن شكل علاقات أفراده، رغم أن أي اقتراح للنهوض يحتوي ضمناً على ما يصبو إليه دعاة النهضة من اقتراحاتهم تلك، فالتصور كان ضبابياً في كثير من الحالات، أقرب إلى تصور المدينة الفاضلة التي تُرسم مسبقاً بصورة بعيدة عن الواقع العملي ومعطياته، ويحمل في طياته نوعاً من احتقار المجتمع الأصلي ورفضاً لما فيه من أعراف وخصائص ومميزات.

فيما بعد جاءت الثورة في سورية، وشهدت أرضها نماذج مصغرة لتلك الأفكار، طُبّقت فيها جوانب من بعض تلك التصورات والمقترحات، فكانت “دولة الخلافة” الإسلامية المتخيلة، و”إدارة الحكم الذاتي” العلمانية المتحررة، و”مجالس الحكم المحلي” المدنية المتأسلمة.. إلخ.

لكن جميعها كان فيه سلبيات كثيرة، تركت آثارها على الأرض، وهنا تحولت النقاشات إلى منحى آخر تم فيه البحث عن سبب الفشل، وعدم القدرة على إزاحة الاستبداد والمستبدين، وكانت الدراسات والنقاشات تركز على لماذا قامت الثورة أساساً؟ ومن المسؤول عن فشلها؟ وكأن كل شيء اكتمل وانتهى، أو أن التاريخ لا يعطي إلا فرصة واحدة للشعوب.

لقد كانت ثورات الربيع العربي حالة حتمية الحدوث برأيي، برغم التدخلات الواضحة من الخارج التي أسهمت في تسييرها وحرف مساراتها، وهي تمر اليوم بمرحلة تعثر قاسية، لكن نتيجة هذه الثورات ليست محسومة حتى الآن، والأمور ليست مستقرة ولا منتهية في أي بلد من بلاد الربيع العربي. لكن مع ذلك هناك إحباط عام منتشر بين جميع الثوار في البلاد العربية، وخاصة في سورية، التي يحمّل كثير من الدارسين والباحثين والناشطين والناس مسؤولية ذلك لما اصطلح على تسميته “الإسلام السياسي”، وتدخلاته في الأحداث.

لن أخوض الآن في تلك الأسباب ولن أدخل في معمعة الرد عليها أو مناقشتها، وسأعود للسؤال الأساس: كيف نستعيد الثقة عند السوريين بالمشاريع السياسية؟

  • متى نبدأ ومن أين نبدأ ومع من نبدأ؟
  • ما أدوات مشروع الوعي الواجب العمل عليها؟
  • ما المشروع الفكري الحضاري السياسي الواجب الاهتمام به في هذه المرحلة؟

متى نبدأ ومن أين نبدأ ومع من نبدأ؟

للإجابة عن سؤال الزمن متى، أقول: يجب أن نبدأ الآن. فالوقت لا ينتظر، ومسؤولية العمران والاستخلاف تحتم علينا العمل المستمر، مهما كانت الظروف.

أما من أين نبدأ؟ فيجب للإجابة على ذلك أن نطرح على السوريين والسوريات سؤالاً مباشراً: ما المجتمع المنشود الذي تريدونه؟ وما خصائصه؟ بالتأكيد لن نجد إجابة واحدة، ولكن سنجد التركيز منصباً بصورة أساسية على شكل الحكم وطبيعة القوانين في ذلك المجتمع (ديمقراطي، علماني، ديني، حر……)، ما يعبر عن فكرة أن التغيير المطلوب لن يتم إلا عن طريق السلطة والحكم والقوانين، وكأن الشعب كائن يمكن تسييره عن طريق التحكم عن بعد، فإذا كان الحكم والقانون علمانياً مثلاً فستترسخ القيم العلمانية في المجتمع وتصبح تعاملات الناس قائمة على أساس علماني، وإذا كان الحكم والقانون إسلامياً فإن نظام الإسلام سينتشر ويصبح الناس في تعاملاتهم خاضعين لذلك النظام، وإذا كان ديمقراطياً فإن علاقات الناس ستكون كذلك…….إلخ، وهو تصور أراه وفق وجهة نظري اختزالياً جداً. لكن بعيداً عن الجدال المحتدم حول هل التغيير يجب أن يكون من القمة أو من القاعدة نجد أن سمات أي مجتمع وشكل تعاملات الناس فيه تعتمد في أساس الأمر على السلوكيات المنتشرة بين أفراده، تلك السلوكيات التي تسم المجتمع بسمة خاصة وتؤثر على راحة أفراده وإنتاجيتهم وتعاملاتهم، فإذا كانت هذه السلوكيات انحطاطية عانى المجتمع من آثارها السلبية وانعكست هذه الآثار على تعاملات الناس وتفاعلاتهم ليصبح المجتمع كله مستحقاً لصفة الانحطاط، وإذا كانت هذه السلوكيات فاعلة ونهضوية فإن آثارها الإيجابية ستظهر كذلك في تعاملات الناس وإنتاجهم وسيكون المجتمع فاعلاً، لكن تلك السلوكيات أضحت اليوم عندنا علامة على درجة اضمحلال الهوية الاجتماعية السورية لصالح هويات مستعارة، فرضتها ظروف الأمر الواقع في كل منطقة من مناطق سورية.

لكن برأيي أن هذا الواقع لن يستمر بالتأكيد، فلابد من أن تنتهي الحرب، وأن تنتهي معها هذه الهويات المستعارة، فإما أن تتقسم سورية جغرافياً بشكل كامل، وتظهر مجتمعات جديدة بهويات جديدة تتبلور مع الزمن، أو تبقى سورية موحدة، لكن المجتمع السوري بالتأكيد لن يعود كما كان قبل الحرب، وستعاني الهوية الاجتماعية السورية من جروح وندبات كثيرة لأمد طويل، ولن يكون المجتمع قادراً برأيي على التعبير عن نفسه بشكل صحيح لأجيال، إلا إذا عرفنا كيف نبدأ ومن أين، ومع من؟

مرتكزات أساسية:

برأيي أنه لأجل أن نبدأ بداية صحيحة يجب أن نراعي النقاط التالية:

  1. التخلص من وهم أنه لا يوجد ما يمكن عمله:

رغم الوضع الصعب الذي تعيشه سورية اليوم، ورغم التدخل الإقليمي والدولي في سورية، يوجد دوماً ما يمكننا عمله من أجل المستقبل، ويوجد دوماً هوامش يمكننا استغلالها والعمل عليها، وتوجد جبهات كثيرة تحتاج لجهودنا، فإذا أحسنا العمل بالمتاح، مهما كان صغيراً، نستطيع التأثير، حتى على المدى الطويل.

  1. التخلص من وهم التغير السياسي السريع:

ليس التحول المطلوب هو الوصول للحكم أو القدرة على إدراج قوانين مرضية، أو الفوز بصندوق انتخاب مهما كان نزيهاً، لكنه بناء وعي مجتمعي، وإرساء توازن في العلاقة بين القوى المختلفة في المجتمع، وإنشاء بنية ثقافية صحيحة، قادرة على تأسيس قاعدة شعبية مؤمنة بأهمية تفعيل قوى المجتمع وفضائله وقيمه، مع وجود قوى اجتماعية قادرة على حماية ذلك، عبر تحالف يضم شرائح وفئات كثيرة من السوريين والسوريات، وهذا يحتاج وقتاً وتخطيطاً صحيحاً.

  1. التخلص من وهم وجود المخلّص:

فاليوم كل الدول والحكومات يعملون لمصالحهم، وليس هناك من يعمل لصالح الآخرين، إلا إذا تقاطعت مصالحه مع مصالحهم. مهمة تغيير الواقع هي مسؤوليتنا نحن فقط.

  1. التخلص من وهم أن التغيير القادم سيكون كما نريد:

فليس هناك ضمان بأن يؤدي التغيير في واقع سورية اليوم إلى تحقيق الآمال المعقودة، أو أن يعارضه السوريون والسوريات إن لم يكن ملائماً لتطلعاتنا، فاليوم يعاني معظم السوريين من الفقر والذل والتشتت وتتعلق آمالهم بلقمة العيش وتأمين الحد الضروري للاستمرار بالحياة.

  1. التخلص من وهم إمكانية الاستفراد بالعمل:

فاليوم لا يمكن العمل دون وجود تحالفات متنوعة، مع قوى اجتماعية وثقافية وسياسية عديدة، وقد أظهرت السنوات السابقة مدى الاختلاف وتنوع الآراء والرؤى، لذلك يجب أن يكون هناك استعداد للتعاون مع الآخرين والتحالف معهم جزئياً في مسائل متنوعة.

مداخل استراتيجية للعمل:

  1. الاهتمام بتأسيس فكري متين:

إن أي مشروع حضاري يجب أن يقوم على أسس فكرية متينة، بمعنى أن تتصف بالوضوح والموثوقية والقدرة على الإقناع، وللوصول إليها يجب عدم تجاهل المشاكل الموجودة في سورية، وامتلاك الشجاعة على طرحها، وتقديم تصورات أولية للحل. ويمكن أن يقدم هذه الأسس مجموعة نواة من السوريين، تكون قادرة على الحوار النهضوي الفعال، رغم اختلاف المشارب والقناعات.

  1. التوعية المكثفة بضرورة التغيير وعدم قبول الواقع المزري:

وهنا تبرز أهمية العمل في إعداد قطاعات واسعة من المجتمع للمشاركة في جهود التغيير المنشود، والتوسع في إعداد برامج التربية القيمية، القابلة للتطبيق العملي. وتشجيع كل محاولة للعمل، وعدم الخوف من محاولات العمل الأخرى المشابهة، فالساحة تحتاج لجهود ضخمة.

  1. قاعدة المشروع الشعبية:

قد لا يلبي المشروع المطروح  تطلعات كل السوريين، لكن من المهم الوضوح والنزاهة، ويجب العمل على توسيع القاعدة الشعبية، وتقليص جبهة الرافضين، وهذا لا يكون بتمييع القيم التي يقوم عليها المشروع، بل بعدم الانشغال بمعارك جانبية، والتركيز على العمل المثمر الفعال.

  1. قابلية العمل الجماعي:

والاستعداد له، والبحث عن تحالفات مع جماعات وتجمعات تتقاطع أهدافها، أو يمكن التكامل أو التفاعل معها.

  1. البحث عن وسائل جديدة لجذب الشباب وتحفيزهم على العمل:

من خلال الخطاب غير الوعظي ولا الآمر، وصياغة خطاب يلامس مشاكلهم وأسئلتهم. بالإضافة إلى المشاريع العملية، التي يكون لها مخرجات حقيقة على أرض الواقع، وليس فقط برستيج أو شهرة فارغة.

  1. الاهتمام بالإعلام وقوة الكلمة:

بعيداً عن التدليس أو الكذب، أو الاستخدام السطحي المهادن أو الوقح الفاجر، والعمل على خلق حالة إعلامية تسهم في تشكيل رأي عام حول القضايا المحورية اللازمة للتغيير المطلوب.

وأخيراً: الصبر والصبر والمصابرة وعدم استعجال النتائج.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط