مؤاخاة المدينة.. تركيب القيم والمصالح

أ.عبد الله عتر

0 7٬654

حين كان رسول الله يبني الأحجار الأولى للمسجد كان على الضفة الأخرى يضع القواعد الأولى للمجتمع الجديد في المدينة المنورة، وذلك من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
لكن وفي الأيام الأولى بدأ التفكير بالمؤاخاة يمشي في طرق خطرة، فالأنصار عرضوا على المهاجرين أن يتبرعوا لهم بنصف أراضيهم وأصولهم الزراعية التي يملكونها، وجاؤوا للرسول وقالوا: “اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل”. قال النبي: “لا”.
رفض صلى الله عليه وسلم هذا المقترح، رغم أنه يبدو في قمة الخيرية والروح الطيبة، فهم الأنصار سبب الرفض، فقدموا المقترح الثاني الذي يضمن مصالح الطرفين، فقالوا للمهاجرين: “تكفونا المدونة ونُشرِككم في الثمر”، بأن يدخلوا مع المهاجرين في شراكات، المهاجر يعمل في أرض الأنصاري ثم يتقاسمان الربح مقابل عمله: “فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمئونة” (البخاري ومسلم).

الوقت يداهم قسد ويختبر تركيا

رفض الرسول أن ينظر الناس للمؤاخاة أنها تبرعات وقيم مجردة عن المصالح الدنيوية المتبادلة، إذ أراد أن يبني أساس الاقتصاد والمجتمع الجديد على مؤاخاة عميقة تتركب فيها القيم والمصالح، وتأتي التبرعات لتدعم هذا الأساس الاجتماعي وتسد ثغراته، وهنا تكون الأهمية الفائقة للصدقات والتبرعات والقرض الحسن وغير ذلك.
أساس المؤاخاة في المجتمع المديني مؤاخاة قيم ومصالح، ودعائمها مؤاخاة بذل وتبرع بلا مقابل، ويبدو أن من يعكس هذه المعادلة سيجر الويلات على مجتمعه، وما يشيع اليوم من “مرض تلقي المساعدات” من هذا الباب.
وضع الفقهاء قاعدة كبيرة في هذه الأمور، وهي أن “الجمع بين المصلحتين أولى من إهدار أحدهما”، فكلما قمنا بتركيب مصالح أكثر في التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية لبلادنا، أولى من أن يكون هناك يد معطية ويد آخذة بلا مقابل.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

استطاع مجتمع المدينة أن يبني طريقة تفكير تؤمن بمبدأ الوفرة وتتقن تركيب مسننات المصالح مع بعضها، وهذا يحتاج إلى:

1-ثقافة اجتماعية وأعراف تدفع الناس نحو تركيب المصالح، وتجعلهم يفكرون بها في الحياة اليومية.
2- مهارة عملية وتنظيمات تساعدهم على فعل ذلك بسهولة.
أشعر أننا في بعض الأحيان نقيم شرخًا بين القيم والمصالح في عقول أطفالنا ومن حولنا من الناس، وتصلهم منَّا رسالة أن عالم القيم الأخلاقي وعالم المصالح لا يلتقيان، وأن الشكل الأخلاقي أن تعطي تبرعًا بلا مقابل وإلَّا كنت انتهازيًا، وحين تريد تحقيق مصالحك فابحث عنها وحدك، وليس من المهم أن تبحث عن تركيبة مصالح بينك وبين أصدقائك وإخوتك.
هذه العقلية لها آثار ممتدة، ولعل أحد المعضلات التي تعيشها بلادنا هي عدم قدرة أبنائها على تركيب مصالحهم السياسية والاقتصادية بشكل معقول.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط