محطَّات التَّغيير

أنس جمعة حشيشو

318

يمرُّ بنا شهر رمضان مثل محطةٍ محوريةٍ؛ لتعديل السّلوك الإنساني وبناء العادات الإيجابية.

فرصةٌ وهبنا الله I إيّاها في هذا الشهر العظيم، لتكون لنا محطة تغييرٍ، وسبيلاً لبناء الأفضل مِن العادات..

لتكون بمثابة بدايةٍ جديدةٍ مع الرّوح والعقل والبدن، بعد أن تزوّدت من نفحاته أياماً، وأُشربت الإيمان من سويعاته؛ فحصّلتِ المقصود، وتزوَّدت بالتقوى.

قبيل الانطلاق..

ولتثبيت بعض المفاهيم نتذكر أنّ الصوم صومان: صوم ماديٌّ، وصوم معنويٌّ.

صوم أبدانٍ عن كلّ المفطرات، في زمنٍ محدودٍ ووقتٍ محدود.

ولا يتحقَّق مُراد الصوم إلّا بتمامه، فتصوم الجوارح عن كل ما يُرديها المهالك، صياماً دائماً غير منقطعٍ.

فشتّان بين مَن ترك طعامه وشرابه وساء خلُقه وطبعه، ومَن صام عن الدنيا وما فيها سوى الله تعالى، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الدّنيا، فأحسنَ صيام الأبدان والجوارح، وزكّى النّفس ورقّاها عن كلّ ما يجرح هذه العبادة العظيمة، وحسّنها بأخلاق الإسلام وآدابه؛ متجمّلاً بها.

الصيام حياةٌ وجدانيةٌ قبل أن يكون امتناعاً عن أشياء بدنيةٍ، فهو عبادةٌ لتزكية النفس وترقية الضمير الإنساني..

جاء رمضان ليهذّب الّنفوس ويروّضها عن كلّ سيّءٍ -مِن القول والسلوك- ويزكّي الرّوح ويطهرها عن كلّ العلائق والأدران، لتكون أنقى وأصفى، ولربها أقرب وأتقى..

إنَّ امتناعنا عن المفطرات في شهر رمضان تدريبٌ عمليٌّ لكبح جماح الجسد عمّا يحب، وتمرينٌ لإدارة العواطف، وتحكّمٌ برغبات الذّات، وترويضٌ للأنا..

تخرج من هذا التجربة الميدانيّة متيقناً مِن قدرتك على إدارة ذاتك، والتّحكم برغباتك، وتعديل كلّ سلوكٍ لا ترغب فيه.

هي تجربةٌ عمليةٌ تثبت لك أنّك قادرٌ على تغيير العادات السّيئة، والتّحكم بكلّ ما هو شائن.

نعم.. نعلم أنَّ الطبع غلّابٌ، لكن الإدارة أقوى، والمواظبة على عمليات التغيير -بأسلوب ممنهجٍ وتدرجٍ سلس- يعطي نتائجه الفعّالة.

في الحديث، عن النبي r: «إِنَّمَا ‌الْعِلْمُ ‌بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»([1]).

كنتَ قد عقدتَ العزم في رمضان على مجموعةٍ من الطّاعات والعبادات، وجدولت مهامها حرصاً للمحافظة عليها وضمان تطبيقها..

وِردك القرآني، وصلوات الجماعة، وقيام الليل، وصدقة السّر، وصلة الرحم، وهذه مِن أفعال الخير ومِن أعظم أبوابها..

والجميل أن تزيد عليها عقد العزيمة بألّا تخرج مِن رمضان إلّا وقد أخذت قراراً في ترك عادةٍ أو عادتين مزعجتين في حياتك (المهنية، أو الاجتماعية، أو العِلمية، أو غيرها)؛ والتي قد أرهقَتْ حياتك وأزعجت أهل بيتك ومَن حولك، مثل:

  • الإقلاعٍ عن التّدخين..
  • إغلاق باب التّسويف..
  • التريّث في النقاش، وعدم الحِدَّة فيه..
  • تهذيب النفس عن بذاءة اللسان..
  • الإقلاع عن إدمانك لوسائل التواصل..
  • التأخر في المواعيد، وتنظيم الوقت..
  • قطع العلاقات المحرّمة..

عادتين لا أكثر، خطِّط لهما، وضع تاريخ انطلاقةٍ جديدةٍ في حياتك لتركهما، مع الانتباه إلى مسألتين في غاية الأهمية:

أولاً- إياك مِن التخلّي عن العادات السيئة مع إبقاء مسبباتها، (فخلف كلّ سلوكٍ دافع)..

بل عليك بدايةً أن تتخلص مِن الدّوافع والأفعال والأماكن والأشخاص والمسبّبات والأشياء التي تذكرك بها وتحرّضك على فعلها وتقرّبك مِن العودة إليها.

ثانياً- اصنع لنفسك بدائل تعينك على التّرك، والمواظبة على الخيرات..

وهنا يكمُن دور الصّحبة الصّالحة ودائرة المناصحة -مِن الأهل المقرَّبين والأصحاب الخُلَّص- الذين هم خير معينٍ لبدايةٍ جديدةٍ في حياتك، وأقوى أداةٍ لتحسين طباعك والارتقاء بها نحو المعالي.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ ‌لِمَنْ ‌حَسَّنَ ‌خُلُقَهُ»[2]، فالاستمرارية بتجويد وتزكية الطّباع مِن صفات الصّالحين، المدركين لمعنى قول ربهم: ﴿‌قَدْ ‌أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[3].

وما أجمل قول محمد بن كعبٍ القُرَظِيِّ: “إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، جَعَلَ ‌فِيهِ ‌ثَلَاثَ ‌خِصَالٍ: فِقْهًا فِي الدِّينِ، وَزَهَادَةً فِي الدُّنْيَا، وَبَصَرًا بِعُيُوبِهِ”[4].

______________________________________

 ([1]) المعجم الكبير للطبراني (2663).

 ([2]) سنن أبي داوود (4800).

 ([3]) [الشمس: 9-10].

 ([4]) صفوة الصّفوة: (2/128).

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط