صدر الكتاب في عام 2007 للكاتب (عبد الرحمن الحاج)، وهو دراسة رصينة بالحقائق والأرقام، عن تغلغل السرطان الشيعي في سورية منذ عام 1919 حتى عام 2007، الذي تكاثر وازداد في حكم آل أسد، الذين تستروا بالقومية، والعروبة، واليسارية، ليخفوا باطنيتهم، ومع ذلك يفرّق الكتاب بين تعاطي الأسدين مع التشيع المتمثل بإيران، من تحالف حذر للأب، إلى تسليم مطلق وارتماء بالحضن عند الابن، وربما إيمان بالعقائد نفسها ، مع الأخذ بعين الحسبان أن دافع التبشير بالتشيع الذي تمارسه إيران غايته سياسية توسعية، وليست فقط الرغبة بهداية الحيارى والمضللين حسب رأيها.
أنهيت قراءة الكتاب مؤخراً متأسفًا أني تأخرت في قراءته 14 عامًا، إذ إنه من أثمن ما مرّ بي، ويجيب عن أسئلة ظلت تدور بذهني لسنوات عن القرارات الجائرة، والممارسات التمييزية ضد مذهب غالبية السوريين، التي كنا نسمع بها قبل الثورة ونحسها دون أن نستطيع الإمساك بدليل مادي عليها، وبرأيي وجب تسليط الضوء عليه بعد قيام بشار الأسد بإلغاء منصب مفتي الجمهورية، واستبداله بمجمع فقهي نسبة الشيعة الأصليين فيه 10 مقاعد، مقابل 13 مقعدًا لمشايخ سنة موالين للنظام، لذا يُشك بعمالتهم لمشروع إيران الطائفي، فيما وُزعت باقي المقاعد على العلويين ( هناك تيار متنامٍ فيهم للعودة إلى التشيع الاثني عشري) والدروز والإسماعيليين، وبالتالي هذ الحركة استمرار لمشروع تشييع سورية، الذي يرعاه النظام، في المقابل هناك محسوبون على المعارضة يضيعون هوية سورية السنية لمصلحة العلمانية التي يتصنّعونها تزلفًا لجهات داعمة خارجية، أو طائفية داخلية.
بداية الاختراق الشيعي:
نسبة الشيعة الاثني عشرية الأصليين في سورية لا تتجاوز 0.4% من تعداد السكان، ويتركزون في أحياء وقرى معدودة، ولم يكن لهم أي دور مهم بتاريخ سورية قبل انقلاب حافظ الأسد، لكن ما جعل الكفة ترجح لهم بوادر صحوة ضربت الشرائح المتعلمة والشابة من الطائفة النصيرية، التي تعدُّ مذهبًا خارجًا عن الدين عند عموم فقهاء الشيعة والسنة على السواء، بسبب اعتقاداتها وتاريخها، حيث تعود أصولها إلى انشقاق عن المذهب الشيعي الاثني عشري، وجرفتها الأمواج بعيدًا عنه، واستمرت القطيعة نحو ألف عام بين الطرفين.
تذمر عدد من متعلمي النصيرية ( الذين أصبحوا العلويين لاحقًا ) من وضعهم المجتمعي والسياسي، وكرهوا نظرة الدونية والازدراء التي تلاحقهم من باقي الطوائف، ووجدوا أن الحل بكسر عزلة طائفتهم، عبر إلحاق الفرع ( النصيرية ) بالأصل ( الشيعة الاثني عشرية ) وهكذا بدأت التواصلات الأولى مع الحوزات الشيعية الأم في العراق وإيران، وبدأنا نسمع بذهاب عدد من شباب الطائفة لدراسة الفقه الجعفري، ثم العودة لنشره بين النصيريين، وعدوه الفقه الأساسي للطائفة، بما أنها جزء من الفرق الإسلامية تتبع الجعفرية، وليست انشقاقًا عنها، ما بدا أنه حركة تصحيح وضع.
لعب عدد من رجال الدين الشيعة دور الراعي والداعم لهذا التصحيح المذهبي المجتمعي، منهم موسى الصدر، وحسن الشيرازي الذي سيكون له لاحقًا شأن عظيم في نشر التشيع في سورية، الذي أنقذ حافظ الأسد من مشكلة كبيرة.
طوق النجاة يُمد لحافظ الأسد من الملالي:
في عام ١٩٧٣ أصدر حافظ أسد دستورًا يناسبه، لكن فيه إشكال كبير، هو ديانة رئيس الجمهورية الذي يجب أن يكون مسلمًا، وحافظ الأسد من طائفة يرى كفرها فقهاء الشيعة والسنة على السواء، هنا برز دور المعمم حسن الشيرازي الذي أصدر فتوى تفيد أن العلويين جزء من الشيعة الاثني عشرية، مستفيدًا من تنامي تيار عودة الفرع (العلويين) للأصل الشيعي، خاصة أن هذا التيار كان يحظى برعاية حافظ الأسد نفسه، هذه الفتوى مع موقف الشيرازي المعادي لصدام حسين عدو الأسد اللدود، زادت حظوته، وتمكن من تأسيس أول حوزة شيعية في سورية في بلدة السيدة زينب التي كانت سُنية بالكامل وذلك عام 1975، التي أصبحت لإيران الخميني لاحقًا مسمار جحا.
جائزة الأسد للملالي:
تحولت هذه الحوزة بعد حظوة صاحبها عند الأسد واستفادته من دعم مخابراته، الذين فيهم الكثير من رجال تيار (عودة الفرع للأصل) مثل هشام بختيار وآصف شوكت، إلى مركز جذب واستقطاب لعشرات المبشرين الشيعة من مختلف الجنسيات، وصارت محط مناكفة مع سكان بلدة السيدة زينب السنة، ومع استلام الخميني الحكم في إيران، وصدام في العراق، ازدادت بشكل مهول نسبة العمائم السود القادمة للسيدة زينب، وتكاثرت فيها بؤر التشيع كالفطر، وصارت تنتقل منها لغيرها في سورية، مستفيدة من تسهيلات النظام، وعدم وجود مؤسسة سنية مستقلة تواجه تغولها.
هل حافظ الأسد شيعي؟!
فتح الأسد الباب بحذر لتشييع السوريين، علويين وسنة، واستفاد من التقارب مع إيران الخميني، التي عدّ التحالف معها شرًا لا بد منه لتثبيت أركان حكمه، لكن هل كان حقًا يعتقد التشيع أو يقتنع به؟!
يذهب مؤلف الكتاب أن حافظ الأسد كان غير متحمس لأي مذهب ديني، بل كان بارعًا في توظيف المذاهب الدينية في سبيل تعزيز سلطته، فكان يصافح كفتارو والبوطي بيد، ويذبح بالثانية من يشك في انتمائه للإخوان، يربت على كتف الخميني ضد صدام حسين بيد، ويعمل الثانية قتلاً بأتباع الخميني المنشقين عن حركة أمل في لبنان، المشكلين لما عُرف بحركة أمل الإسلامية أو حزب الله تاليًا.
في عام 1981 كان صراع الأسد مع جماعتي الطليعة المقاتلة، والإخوان المسلمين السنيتين قد بلغ الذروة، لكنه لم يكن ساذجًا ليقطع جميع الخيوط مع السنة، ويخرج الأمر كصراع طائفي بامتياز، فكان أبرع من رجالاته باللعب على جميع الحبال، فقد قرب مشايخ سنة وتحالف معهم وقدم لهم فتاتًا من الامتيازات الشخصية، ليكونوا واجهة تجميلية تضفي عليه الشرعية في صراعه ضد هوية الشعب السوري وإرادته للتحرر من الحكم الطائفي، بالوقت نفسه أسس أخوه جميل جمعية اسمها (المرتضى)، كانت بتمويل ودعم إيرانيين، وأُريد لها أن تكون أداة اختراق المجتمع السوري لتشييعه وتطويعه لحكم الأسد، وركزت الجمعية في عملها على شريحتين رئيستين، هما شريحة أبناء العشائر (خاصة في المنطقة الشرقية)، وشريحة الأكراد تحديدًا بمدينة عفرين، مستفيدة من حالة الجهل، والبُعد عن التمدن عند غالبية أبناء الشريحة الأولى، ومن فقر الشريحة الثانية، وتهميشها، وكون أصول أغلب قيادات حزب pkk من العلويين.
استطاعت جمعية المرتضى تشييع وعلونة عدد من السوريين، خاصة في المناطق التي تغلب عليها الصبغة العشائرية والريفية كشمال شرق سورية، أو في مناطق الأكراد كعفرين وغيرها، وشكلت منهم رديفًا مجتمعيًا لسرايا الدفاع، وشبكات من الفساد المالي والاجتماعي يستفيد منها آل الأسد، وفي عام 1983 عند توتر العلاقة بين حافظ ورفعت وصراعهما على حكم سورية، انحاز جميل المقرب من رفعت لحافظ، فقام حافظ بحل الجمعية، وجرّد حملة أمنية لتصفية شبكاتها، وملاحقة منتسبيها، حتى يضمن عدم وجود مراكز قوى تهدده، واكتفى جميل الأسد ببعض الشبكات الأصغر من سابقتها، يمارس من خلالها أعمال الفساد والتهريب والبلطجة، وكانت بداية ما يسمى الشبيحة، الذين أصبح لهم لاحقًا الدور الأبرز في حكم آل الآسد.
حافظ أسد الذي كان يطمح إلى توريث الحكم من بعده لابنه باسل، لعب على توازنات طائفية تحميه شر انتفاضة سورية جديدة، فكان يقرب مشايخ من السنة كالبوطي وكفتارو، وينسج علاقة باسل معهم كشخص مهتم بالدين، مع حرصه على عدم وجود أي مؤسسة دينية سنية مستقلة، أو قادرة على أن تغرد خارج السرب، أو تؤثر بسياسة حكم الأسد لسورية، بالوقت نفسه يمكّن بحذر لتيار التشييع والعلويين المتشيعين، مع استخدام هذه الورقة لابتزاز إيران كلما حصلت في لبنان على حصة من نصيبه، وكان سابقًا قد أرسل وزير خارجيته ليبارك انتصار ثورة الخميني الإسلامية، وليهديه، مصحفًا مذهبًا، لكنه حرص ألا يلتقي بالخميني أبدًا، أو يكون له صورة معه، هذا الموقف يختصر كيف كان ينظر الأسد لإيران الخميني، وللتبشير الشيعي.
لم تنتظم علاقة حافظ الأسد بإيران وأذرعها الشيعية إلا في أواسط تسعينات القرن الماضي، ففيها تم الاتفاق على دور حزب الله، وحدود مملكة كل طرف في لبنان، مع تراجع تهديد عراق صدام، وغياب أي دور سني يشكل تهديدًا في سورية سواء سياسيًا أو دينيًا، حينها أخذت العلاقة مع إيران شكلاً أكثر انضباطًا ومرونة، وصار لحزب الله فسحةً كبيرة للتحرك ونشر التشيع بأساليب مبطنة.
التشيع في عهد بشار:
كان حكم بشار الأسد العصر الذهبي للتشيع الإيراني، فبشار عكس والده لم يراعِ التوازنات المذهبية، ولا مشاعر الغالبية السنية، فحتى البوطي صاحب الحظوة عند حافظ، أصبح مستهجنًا مرفوضًا عند بشار، وتراجعت مكانته جدًا، رغم بقائه على ولائه للنظام، ودعمه له ضد الثورة.
انحاز بشار من أول يوم في حكمه بشكل تام للمشروع الإيراني بكل تفاصيله، وأطلق يد المؤسسات والشخصيات الشيعية لآخر مدى، وبكافة المجالات، وازداد المجال لهم اتساعًا وحرية بعد اندلاع الثورة، وشعور بشار أن حكمه انتهى، فهرول للارتماء الكامل بحضن الولي الفقيه، وفتح له كل باب، ويسر له كل سبيل.
كيف يتشيع السوريون؟
أهم أدوات التشييع بحسب الكتاب كانت:
1) العمالة السورية التي دفعها الفقر، أو حرمانها من حقوقها المدنية (كأكراد الحسكة) للذهاب إلى لبنان والاحتكاك بالشيعة، خاصة أن هذه العمالة غالبها غير متعلم أو متدين، ونسبة منها (الأكراد) متذمرة من هضم حقوقها، وتطمع لأخذ الجنسية اللبنانية علها تكون وسيلة لإصلاح وضعها.
2) العلاقات الاجتماعية كالزواج، والتقارب الجغرافي، فبحسب الكتاب فإن قرية (الزهراء) بريف حلب تشيعت بتأثير قرية (نبل) جارتها الأكبر منها، وقرية (كفريا) تشيعت بتأثير جارتها الأكبر منها وهي قرية (الفوعة).
3) التشيع السياسي، وذلك عبر استغلال قضية فلسطين، وإنجازات حزب الله العسكرية ضد الكيان الصهيوني، في تلميع صورة الرموز الشيعية، والفكر الشيعي السياسي.
4) التسهيلات الأمنية، واللوجستية، المقدمة من مخابرات الأسد، خاصة بوجود عدد كبير من الضباط العلويين الذين اعتنقوا التشيع تحت تأثير تيار عودة الفرع إلى الأصل كماهر الأسد، وهشام بختيار، وآصف شوكت، إضافة إلى الدعم الإيراني المادي والمعنوي والسياسي غير المحدود.
5) استثمار الأعمال الإنسانية وتسييسها لنشر التشيع، مع النشاطات الثقافية والمجتمعية والتعليمية، التي تقدمها المراكز الثقافية الإيرانية (بعثات للتعليم الجامعي في إيران / دورات تعليم اللغة الفارسية / محاضرات وندوات …. إلخ).
6) التضييق على السنة رموزًا ومؤسسات، ففي وقت كانت الحوزات الشيعية تبنى فيه بأريحية، وتدرس ما تريد، وتستقبل تبرعات وأموالاً دون رقيب، وطلابًا ومبشرين أجانب، كانت المؤسسات السنية، والتعليم الديني السني مضيق عليهم بقرارات رسمية صارمة، صدرت من شخصيات متشيعة كالوزير محمود السيد الذي استلم عدة وزارات كالتربية والثقافة، والوزير علي سعد وزير التربية الأسبق، والوزير محمد الأحمد وزير الثقافة الأسبق، والوزير محمد عبد الستار السيد وزير الأوقاف، ومفتي سورية السابق أحمد حسون.
كيف كان تعاطى الشعب السوري مع حملات التشييع؟!
لم يكن نجاح حملات التشييع متناسبًا مع الجهود والتسهيلات المبذولة له، بل وأغلب المتشيعين من الشعب السوري خاصة من السنة كانوا منبوذين في مجتمعاتهم المحلية، وبقي الشيعة السوريون يشكلون أقل نسبة من الطوائف السورية رغم كل ما يحظون به من دعم رسمي محليًا وإقليميًا، وقد تعرض التشيع في سورية لهزات أهمها خسارة قسم كبير من الخدوعين فيه إثر حرب التطهير الطائفي التي بدأتها الميليشيات الشيعية ( فيلق بدر / جيش المهدي ) ضد أهل السنة في العراق عام 2005 وانحاز لها حزب الله اللبناني، وانتشار التيار السلفي بتأثير حربي أفغانستان والعرق الذي يُعدّ المفترس الطبيعي للتشيع، ثم قيام الثورة السورية لتكون طعنة في صميم مشروع تشييع سورية الذي ترعاه إيران من عشرات السنوات.
ما مستقبل سورية مع التشيع؟!
لاتزال سورية تعاني خطر التشيع، خاصة أنه ممنهج ومدروس ومدعوم إقليميًا وحكوميًا، وما الجرائم التي قام بها النظام من إبادة وتهجير واغتصاب عقارات وتزوير سجل مدني إلا خطوات في هذا الطريق السام، وآخر ما سجل حتى لحظة تدوين هذا المقال هو ما تطرقنا له في بدايته من موضوع إلغاء منصب مفتي الجمهورية، والاستعاضة عنه بمجلس فقهي السيطرة فيه والقرار لشيعة إيران، على حساب سنة سورية المضطهدين في بلدهم منذ سنوات، في ظل خجل كثير من المحسوبين على الثورة من تشكيلات وشخصيات من تبني الهوية السورية السنية والدفاع عنها، مع وجود أجسام وشخصيات أخرى غير ممكن لها تحاول النضال ما تستطيع تثبيتا للهوية السورية السنية ضد التجريف والمسخ، حتى بناء سورية الجديدة، دولة العدالة والقانون والحرية، التي لا تخجل من هويتها وقيمها، التي تنطلق منهما في بناء مستقبلها الحضاري الريادي.