هوامش على تصريحات المصالحة بين الواقعي والسياسي

أحمد وديع العبسي

1٬162

في البداية لا بدّ من التأكيد أن أيّ مصالحة مع النظام هو أمر مرفوض شعبياً، ولا يمكن التساهل حياله لا في المواقف ولا في التصريحات، ومن حق الشعب السوري في داخل سورية وخارجها أن يعبر عن رفضه لهذه التصريحات بجميع الوسائل الممكنة، وإن الغضب في مواقف كهذه يمثل ذروة الوعي الشعبي الذي لا يهتم بالسياسة إلا بقدر ما تخدم مصالحه وهذا هو الأساس. وهذا الوعي هو القادر على حماية الواقعي من السياسي.

بعد الغضب والرفض المشروع لا يضير أن نعرف أن السياسة تستدعي أحياناً ما لا يكون متاحاً واقعياً، وهذه هي مهمتها، وهناك فرق كبير بين التصريح السياسي والأبعاد الواقعية التي تترتب عليه، فغالباً لا يحدث أي تطابق بين السياسي والواقعي، وإنما على العكس تماماً، اشتهرت مقولات مأثورة مجملها يدور حول إنه يجب أن نسمع من السياسيين ولا نصدقهم، وإن ما تقوله السياسة غالباً هو بعيد عن الواقع.

يعلم وزير الخارجية التركي أن المصالحة بين المعارضة والنظام أمرٌ مستبعد بشكل كبير في الفترة الحالية وفي المدى المنظور، وهذا ليس بسبب أحد الطرفين (النظام والمعارضة)، بل لأن الواقع الإقليمي والدولي وخرائط النفوذ والسيطرة حالياً غير قابلة للتفكك، وغير متفاهمٍ عليها بين الأطراف صاحبة السلطة الحقيقية على الأرض وأصحاب النفوذ في القضية (روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة والصين وأوروبا والعرب والكيان الصهيوني) ولذلك فإن تصريحات الوزير بخصوص المصالحة هي ذات بُعدٍ سياسي لا أكثر

إذن التصريحات ذات جانب سياسي أكثر منه واقعي، وطبيعة النظام الأمنية تجعل كل الأطراف فاقدة للثقة به، ولا يمكن أن تخوض معه أي تجربة مصالحة، وتجربة المصالحة في درعا أكبر دليل على ذلك، رغم أنها تجربة صغيرة ومحدودة الأهمية، لكن النظام لم يلتزم بها، وقام بإعادة اعتقال مئات المعارضين من درعا بعد المصالحة وقتل الكثير منهم. لكنّ تركيا التي تحاول استعادة دورها في المحيط العربي، خاصة بعد التحسن اللافت في العلاقات بين تركيا والإمارات وإعادة بناء مجموعة من المصالح المهمّة والاستراتيجية بين البلدين، قررت من خلال خارجيتها الإدلاء بمجموعة من التصريحات بهدف صناعة خطابٍ عامٍ جديد يجعل التفاهم مع الشركاء الجدد في مختلف ملفات المنطقة أمراً ممكناً، وهذا لم يشمل سورية فقط، وإنّما هناك العديد من المواقف والتصريحات المتقدمة ذات علاقة بمصر وإسرائيل، واليمن في وقت سابق، طبعا بالإضافة لضرورة مراعاة مصالح تركيا المتشابكة والمعقدة مع روسيا وإيران.

بعد هذه التوضيحات من المهم أيضاً أن نعرف أن مسار المفاوضات والقرار 2254 وبيان جنيف الذي تتمسك به المعارضة والثورة لا ينص على إسقاط النظام وإنما على انتقال سياسي يشترك فيه جميع الأطراف، بما فيها النظام، يعني من الآخر هو أحد أشكال المصالحة (التي لا نعتقد أنها ستتم)، ولكن الشيء بالشيء يُذكر.

أمر آخر يخص مسار التفاوض برمته، وهنا الكلام سوري سوري لا علاقة لتركيا وغيرها به، … إذا كان لا بديل عن اسقاط النظام، فعلامَ نفاوض؟! ولماذا نذهب لطاولة المفاوضات في جنيف وأستانا وغيرها؟!! هل من الممكن أننا نعتقد أن النظام يمكن أن يفاوضنا على سقوطه!! أي أننا نفاوضه على الطريقة التي سنتخلص بها منه؟!! وهو دولياً وإقليمياً أقوى من المعارضة، (النظام جن شي ولا نحن المجانين!!!)

سيبك من المفاوضات كما يقول أخوتنا المصريون، هل نمتلك القوة الكافية لفتح معركة نسقط فيها النظام، بعيداً عن المفاوضات، وإذا أقرينا بأننا لا نمتلك تلك القوة، لا بأنفسنا تجاه النظام ولا بحلفائنا تجاه حلفائه، والأمر متشابك وغير قابل للتفكيك في هذه النقطة، فلماذا نجعجع كثيراً حول الطواحين، أم أننا بلهاء لدرجة أننا نريد خوض معركة نموت فيها وحسب، لكي نخبر العالم الأطرش أننا لن نرضى بالطغاة!! وهل يعلم من يريدون الموت أن المنتصر هو من يكتب التاريخ؟! وإذا كانوا يعلمون ذلك غالباً، فليتذكروا أن العالم الأطرش لن يجد فرصة لسماعهم، لأنهم سيكونون (الطغاة) الذين تمّ التخلص منهم، … ولهم في السابقين عبرة.

لا بدّ أن نعلم أيضاً نحن (جماعة من يمتهن التنظير والتحليل) أن ردّة الفعل والغضب الذي أبداه الناس لها بُعد نفسي، يستند بجزء كبير منه على الخوف، الخوف من المجهول، من القادم، من المصالحة مع سفاحٍ لن يلتزم أبداً بما يترتب عليه في هذه المصالحة، وسيقتل الناس ويعتقلهم فيما لو أعاد السيطرة على البلاد، الخوف أيضاً من تخلي أخر الحلفاء عنهم، لذلك تراهم أكثر قسوة تجاهه، لأنهم يعلمون بعدم قدرتهم على المواجهة دون حلفاء، وهذا الخوف بجميع تفاصيله إحدى أهم الحقائق التي تجعل المفاوضات مع النظام هو خيار مقبول لأنه خيار إطالة الوقت والاحتفاظ بالأمر الواقع، أطول فترة ممكنة، لذلك يجد الناس فرقاً بين المفاوضات وعبارة المصالحة المشؤومة.

من أجل ذلك لا وجود للمصالحة مطلقاً، ولا يمكن الدعوة لها أو القبول بها، ويجب إدانة كل من يدعوا للمصالحة لأنها في الحقيقة دعوة للاستسلام، وفي المقابل لا يجب القبول بالدعوات المجنونة الني تريد منَا أن نستمر بالثورة بنفس الطريقة الهوجاء والفوضوية التي اعتدنا عليها منذ أكثر من عشر سنوات، فهذه الفوضى عبثية غير منتجة، ولو كان من الممكن أن تنتج شيء لفعلت خلال هذه الفترة، … علينا أن نتجاوز الثورة لخطوات أكثر حزماً وتنظيماً في المستقبل القريب.

الجنون جميل في مثل هذه المواقف وكما قلت هو يمثل لحظة وعي جمعي كبير ومهم، ولكنه قادر على حمل مواقف آنية، ويعبّر .. ويجب أن يفعل، عن إرادة صلبة، ولكن من الخطأ أن يتحول إلى قائد لمركب في وسط البحر تتقاذفه أمواج هائلة ومتلاطمة، أو ذروة سنام قضية بتعقيد قصيتنا السورية، لأنه سيطيح بالناس غرقى في عرض البحر، أو سيرتد إلى صدروهم ويقتلهم، ولن نحقق تقدماً مهماً إلا عندما نعقد تحالفاً حقيقاً مع انفسنا، أقصد أن يتحالف صوت الجنون مع السياسة، أن تعترف الثورة بمؤسساتها السياسية، وأن تصبح القوة العسكرية للثورة جزء من هذا التحالف، تحترمه وتدعمه وتقدم له القوة اللازمة، لا أن يبقى العسكر عبارة عن مجموعات من الزعران، يعربدون بقوتهم أمام الناس بدلاً من أن يدافعوا عنهم، وأن يبقى السياسيون مجموعة من المتملقين والمرتزقة للدول القريبة والبعيدة يزايدون في البازارات السياسية لحساب عيرهم، وأن يبقى الناس والثورة مجانين دون وعي يذهبون لحتفهم بحماقة وكبرياء ليملؤوا أنفسهم بشعارات جوفاء لن تقدم لهم حتى أكفاناً تليق بنضالهم المزعوم …

النضال .. والحق .. والمقاومة … كلمات مليئة بالوعي تبذل في سبيل النصر لا في سبيل الجنون، وإذا لم نكن قادرين على حل مشاكلنا الداخلية أولاً، وإعادة ترتيب صفوفنا، وفهم المعادلات السياسية والاقتصادية حولنا، ورسم خرائط المصالح التي نريدها والتي نحن جزء منها، فلن نستطيع الوقوف في وجه أي بازار سياسي يقدمنا كورقة تفاوض رخيصة لا من الأعداء ولا من الأصدقاء. ولن تنفعنا يومها كل جعجعة المظاهرات، أو الصراخ من الألم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط